الأحد، 6 مارس 2016

قراءة متأنية في رواية «مديح لنساء العائلة» لمحمود شقير





بقلم:  إلياس نصرالله 


رغم أن محمود شقير لم يُشِر في روايته الجديدة «مديح لنساء العائلة» الصادرة في وقت سابق من العام الحالي عن «المكتبة الأهلية» للنشر في الأردن إلى علاقة هذه الرواية برواية سابقة له، إلا أن القارئ الذي استمتع بقراءة رواية «فرس العائلة» لمحمود شقير يستطيع بسهولة أن يتبيّن الصلة بين الكتابين، وأن الرواية الثانية هي امتدادٌ للرواية الأولى، بل جزء ثان من رواية أطول يسجّل فيها شقير بأدق التفاصيل ما جرى لأهل رأس النبع الذين استقر بهم المطاف منذ زمن الاحتلال العثماني لفلسطين في موقع مطل على مدينة القدس يشبه إلى حدٍ كبير جبل المكبر مسقط رأس شقير ومقر إقامته إلى اليوم.

في «فرس العائلة» يروي شقير ماذا حصل لعشيرة العبداللات عندما انتقلت من البرية واستقرت في رأس النبع، في رواية تشبه إلى حدٍ بعيد تغريبة بني هلال في التراث العربي القديم. لكنه في «مديح نساء العائلة» يروي لنا ما حصل بعد هذه النقلة النوعية في حياة هذه المجموعة من الفلسطينيين الذين شاءت الظروف أن ينتقلوا خلال حوالي 100 عام من ظروف معيشية شبيهة بحياة البداوة في البرية، مروراً بالاعتماد على فلاحة الأرض كمصدر عيش رئيس، وصولاً إلى العيش في ما يشبه المجتمع المدني، وهي نقلة ليست سهلة على الإطلاق، وتمت في شكل قسري نتيجة للاحتلال الإسرائيلي.

ولو كانت الظروف التي مرت بها فلسطين خلال المئة عام الماضية طبيعية لاحتاج إنجاز هذه النقلة إلى فترة أطول وربما لقرون. فالظروف غير الطبيعية، مثل الحرب العالمية الأولى والاحتلال البريطاني لفلسطين وتمزيقها إرباً عام 1948 وخضوع القسم الذي يقع فيه رأس النبع، الذي تنطبق أوصافه التي قدّمها شقير في الرواية على قرية جبل المكبر، إلى الحكم الأردني وأخيراً احتلال هذا القسم من جانب إسرائيل عام 1967 وضمّه رسمياً وعملياً إلى مدينة القدس ليصبح حياً من أحيائها على نحو جعل انتقال رأس النبع إلى مجتمع مدني بقرار سلطوي وليس نتيجة تطور طبيعي، فتركت هذه الظروف بصماتها الواضحة على رأس النبع وزادت من وتيرة التحولات الاجتماعية لأهل هذا الموقع.

فمحمود شقير أراد في «مديح نساء العائلة» إعطاء صورة عن حقيقة ما جرى لأبناء رأس النبع، ورصد ما تبقى لديهم من تقاليد عشيرة العبداللات الأصلية. ولم تكن صدفة أن شقير تناول المرأة في رأس النبع والتحولات الاجتماعية التي طرأت على دورها في العائلة والمجتمع، أو عليها في شكل شخصي من ناحية اللباس والمأكل والمشرب أو حتى الترفيه عن النفس وحضور الحفلات الموسيقية والسفر إلى الخارج، التي هي من ميزات المجتمع المدني. فمن خلال المرأة استطاع شقير أن يكشف عن أمور لا تُرى عادة بالعين المجردة وتحتاج لعلماء اجتماع وباحثين متخصصين لتوضيحها. فتعددت الشخصيات النسائية في «مديح نساء العائلة»، فهناك نساء الأب منان الذي كان متزوجاً من ست نساء، منهن مثيلة (أم فليحان)، وصفية، وسميحة (أم يوسف الذي انضم إلى الثوار واستشهد)، ووضحا بنت عبد الهادي (أم محمد الأصغر)، بالإضافة إلى فاطمة ووطفا اللتين فارقتا الحياة وهما شباتان. وهناك نساء أخريات مثل صبحا (أم وضحا) وشيخة ورسمية (زوجتا فليحان) ومريم (زوجة محمد الكبير)، وسناء (زوجة محمد الأصغر) وغيرهن. مع ذلك كان للرجال دور كبير في الرواية لا يقل أهمية عن أدوار النساء، حيث من الخطأ اعتبار أن «نساء العائلة» تعالج فقط قضايا المرأة.

تميّزت رواية «مديح نساء العائلة» بأنه لا يوجد فيها راو واحد، بل تعدّد الرواة الذين لكل منهم قصة يرويها أو ترويها في شكل مستقل، رغم وجود تداخلات هنا وهناك مع روايات أشخاص آخرين في الرواية. ورغم الثقل النسائي في الرواية تظل شخصية محمد الأصغر هي الشخصية المركزية في الكتاب إلى جانب شخصيات أخرى مثل محمد الكبير ومحمد الصغير، ويتميز محمد الأصغر عن إخوته الباقين أنه لم يولد في البرية وأبصرت عيناه النور في رأس النبع ويقول «إني لم أعرف شيئا عن حياة أهلي في البرية إلا من أمي وأبي وبعض أقاربي» (ص 29). فهذا تصريح خطير وقول بليغ إذا ما تذكر القارئ صهيل فرس العائلة في الجزء الأول، أو رواية شقير السابقة، التي لعب ظهور الفرس فيها دوراً رئيساً لتذكير رجال ونساء رأس النبع بماضيهم في البرية والحنين إلى ذلك الماضي. واقتصر ظهور الفرس في «مديح نساء العائلة» على أحلام وخيالات أم محمد الأصغر (ص12 وص33) وجاءت تحذيراً لابنها من السفر إلى بيروت أو تطيُراً نتيجة لعدم قدرة سناء على الإنجاب، ولم يكن لظهورها علاقة بماضي العشيرة والحنين إلى البرية، مثلما كان يعني ظهورها في «فرس العائلة». وأغلب الظن أن شقير استخدم الفرس في الجزء الثاني من روايته فقط لتذكير القارئ بأن ما بين يديه هو استمرار للرواية السابقة، ولم يعط الفرس دوراً أكبر. فالجيل الجديد من أبناء رأس النبع، كما صوّره شقير، لا يعرف عن ذلك الماضي إلا ما يُروى له بين الفينة والأخرى في مجالس العائلة التي أخذت هي الأخرى بالاضمحلال نتيجة للتحولات الاجتماعية التي طرأت على المكان.

أبرز هذه التحولات كان امتهان منان وأولاده مهناً عديدة جديدة بالنسبة لأبناء عشيرة العبداللات. فمنان الذي اشترى قطعة أرض لرعاية الغنم في رأس النبع عقب الانتقال من البرية ما لبث أن بنى عليها منازل له ولأبنائه وتخلى عن تجارة الغنم واستثمر أمواله في الأراضي ليصبح تاجر أراض، وكذلك ابنه فليحان، فيما تفرّق أبناء العشيرة في جهات شتى فأدهم انتقل للعيش في هولندا وآخرون انتقلوا إلى شرق الأردن والكويت والبرازيل وعملوا في مهن مختلفة، وانضم محمد الأصغر إلى صفوف ذوي الياقات البيضاء وعمل في البداية موظفاً في المحكمة الشرعية وانتقل لاحقاً إلى العمل محرراً في الجريدة. كل هذه المهن لا تمتّ إلى حياة البداوة أو حتى الفلاحة بشيء، وهي دليل على التحولات الاجتماعية التي طرأت على العشيرة، وتُشكل قاعدة مادية لهذه التحولات.

ولئلا يعتقد القارئ بأن هذه التحولات الاجتماعية طرأت على رأس النبع في شكل طبيعي وتدريجي عمد شقير إلى الحديث عن الصراعات المسلحة التي اجتاحت البلد، ومن ضمنها رأس النبع في ظل الاحتلال البريطاني وفي حرب عام 1948 ثم فترة الحكم الأردني التي انتهت بحرب 1967 وما تلاها. فالقصص التي رواها شقير عمّا حصل خلال هذه الصراعات تشير كلها إلى أن التغيير الذي طرأ على مجتمع رأس النبع لم يكن تحولاً طبيعياً، بل قسرياً وله نتائج اجتماعية وخيمة، علاوة على نتائجه الكارثية على حياة الأفراد.

فعلى سبيل المثال تحدث فليحان عن أخيه يوسف الذي انتمى للثورة في عام 1936 وقضى خمس سنوات في سجن عكا وانضمامه لاحقاً إلى عبدالقادر الحسيني ومقتله دفاعاً عن القدس عام 1948 (ص 26).

ويروي محمد الأصغر كيف استشهد أخوه وطاف على يد العصابات الصهيوينة في أوائل الأربعينات وزوجته مروادة الغجرية التي لم تلحق بأهلها بعد استشهاد زوجها وظلت في رأس النبع واستشهدت بعد وطاف بسبع سنوات وهي تحاول ممسكة بحجر شج رأس أحد أفراد عصابة يهودية هاجمت رأس النبع، تماماً مثلما فعلت عندما شجت سابقا رأس أحد ممثلي الوكالة اليهودية (ص 30).

وتتذكر وضحا تاريخ رأس النبع فتقول: «الهجوم الذي تعرّض له جبل المكبر عامَ ثمانية وأربعين. تصدّت عشائر السواحرة له بما لديها من بنادق ومسدّسات وبعض قنابل يدوية. وهبّ عدد من أبناء رأس النبع للنجدة». ويضيف محمد الأصغر ابن وضحا حول الحادث ذاته «أبي منّان كان من بين الذين هبّوا للنجدة. كان يمضي وقتاً غير قليل وهو يدهن بندقيّته وينظّفها بالزيت. وكان في أحيان أخرى يتدرّب على الرماية وإصابة الهدف، ومعه عدد آخر من أبناء العشيرة ممن اشتروا بنادق للدفاع عن الوطن. قالت أمي: خفت عليه لَمّا ذهب إلى القتال ومعه بندقية انكليزية متوسطة الحال. استنفد أبي كل الفشك الذي كان لديه. بعد ذلك، وضع بندقيته تحت إبطه وانسحب عائداً إلى البيت. وفي الصباح عُرف أن اثنين من أبناء عشيرة الشقيرات استشهدا في المعركة هما: محمد عبد الله سلامة شقيرات، وحسين الحاج خليل شقيرات» (ص 39).

ويعطي شقير صورة عما حدث لأبناء رأس النبع الذين كانوا مقيمين في القدس قبل عام 1948 والبيئة التي كانوا يعيشون فيها، خاصة العمّ عبدالودود الموظف في البنك ونجمة التي كانت تعتني بمنزل أحد كبار موظفي البنك وغيرهم من الفلسطينيين الذين كانوا مقيمين في حي الطالبية في القدس، ويروي «غادرتْ الحي عائلات كثيرة بسبب الهجمات المتكرّرة على الأحياء المجاورة، وبدا أن الهجوم المقبل سيكون على حي الطالبيّة. ترك الناس بيوتهم وأثاث البيوت وكل ما يملكون وغادروا، تركوا الصور العائلية على حيطان البيوت، والبدلات والفساتين والمعاطف والقمصان في الخزائن، والكتب على الرفوف، والورد ونباتات الزينة الأخرى في أواني الفخار. تركوا غرف النوم وهي مسدلة الستائر وغادروا، ولم يحملوا معهم سوى أمتعة قليلة وفيض الذكريات (ستذكر مريم، زوجة أخي محمد الكبير أن بيت خليل السكاكيني الكائن في حي القطمون تم الاستيلاء عليه، وفيه من أمّهات الكتب ما فيه)» (ص41).

فيما يتذكر فليحان كيف زاره في بيته في رأس النبع غلوب باشا(أبو حنيك)، قائد الجيش الأردني (ص 29)، وكيف كان والده منان من أنصار القائد الوطني سليمان النابلسي، رئيس الوزراء الأردني في عقد الخمسينات (ص 26).

كلها محطات توقف عندها شقير للتدليل على أن التحولات الاجتماعية التي طرأت على رأس النبع مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالتحولات السياسية والعسكرية التي اجتاحت المنطقة برمتها والتي بلغت ذروتها عام 1967 عندما احتلت إسرائيل الضفة الغربية وعرضت على منّان أن تعينه مختاراً لرأس النبع، فرمى منّان الختم وخرج غاضباً من مكتب الحاكم العسكري الإسرائيلي. فهذا الموقف ينطوي على رمزية كبيرة، فحتى مفهوم المخترة تغيّر في ظل الاحتلال الإسرائيلي، فهي لم تعد نابعة من مكانة المختار الاجتماعية في موطنه وبين أهله وشعبه وخدمة لهم، بل أصبح المختار أداة في يد السلطة الإسرائيلية ضد أبناء شعبه وهو ما رفضه منّان بحزم.

وشملت التحولات التي حصلت بعد النكبة عام 1948 احتكاك أبناء رأس النبع ليس فقط بأبناء مدينة القدس القريبة منهم بل بجمهور أوسع من الفلسطينيين الذين أصبحوا لاجئين فتزوجوا منهم، ونتج عن هذا الاحتكاك انتقال عادات وتقاليد كان لها أثر اجتماعي كبير على حياة أبناء رأس النبع منها على سبيل المثال انتقال فنون الزراعة مع اللاجئين إلى المناطق الجديدة التي لجأوا إليها، مثلما حدث مع عبدالفتاح والد رسمية الذي جلب معه إلى رأس النبع فنون غرس الأشجار وتقليمها. كذلك تأثير سناء على محمد الأصغر بعد الزواج وتخليه عن أكل المنسف بيديه واستعمال الملعقة بدلاً من ذلك (ص 31)، والأهم من ذلك القصة بالغة الدلالة عن تعرُّض عطوان أحد ابناء منّان الذي هاجر إلى البرازيل للضرب أمام أبناء عشيرته الذين هاجروا إلى البرازيل معه فلم ينجدوه (ص 78)، على العكس من التقاليد القديمة للعشيرة، فالتحولات الاجتماعية التي طرأت على عشيرة العبداللات أو أبناء رأس النبع كانت نوعية وعميقة وقضت على العلاقات العشائرية أو القبلية القديمة، ويشير شقير إلى أن التمسك بطقوس الجاهلية أو بالأحرى بالتقاليد العشائرية والقبلية هي مجرد تهمة لأبناء رأس النبع، أي أنها لم تعد قائمة (ص 84).

وأكبر دليل على تفكك العلاقات العشائرية والقبلية الجدل الذي دار بين محمدالأصغر ووالده منّان حول شجرة العائلة، ويقول محمد الأصغر ان والده حرّضه «على ضرورة كتابة شجرة للعائلة. لا أدري من أين نبتت في رأسه فكرة الشجرة. ربما من أصحابه التجار في المدينة الذين يتباهون بأنسابهم التي تفصّلها شجرة العائلة وتعود بهم إلى مئات السنين» (ص 147).

استخدم شقير في شكل بارع نفس أسلوب السرد الذي وظفّه في الجزء الأول من روايته «فرس العائلة» وذكر الأسماء الحقيقية للأشخاص وذلك لإضفاء طابع واقعي على الرواية وجعلها مرتبطة بسيرة حقيقية وأشخاص حقيقيين.
________
الراي الكويتية 22 أكتوبر 2015

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق