بقلم: فراس حج محمد
تنوعت مجالات الكتابة عند الكاتب محمود شقير ما بين كتابة القصة القصيرة جدا والقصة القصيرة والرواية والمسرحية والسيرة وكتابة السيناريو، وكتب للصغار وللكبار باقتدار وإبداع، هادئ اللغة وجميلها، تنساب إلى نفس القارئ بسلاسة فتتغلغل بعمق. كما تنوعت نشاطاته الأدبية في فلسطين والعالم، وترجمت أعماله إلى لغات متعددة. وحصل على عدة جوائز إبداعية، وكرّم في العديد من المحافل الثقافية، ووصلت روايته "مديح لنساء العائلة" إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر لهذا العام (2016).
ويواصل الكاتب محمود شقير في كتابه الصادر حديثا عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل "رام الله التي هناك"، مسيرته في الكتابة لليافعين بعد "قالت مريم.. قال الفتى"، و"أنا وجمانة"، و"الربّان"، و"كوكب بعيد لأختي الملكة"، و"أحلام الفتى النحيل"، و"القدس مدينتي الأولى"، ويضاف هذا الكتاب "رام الله التي هناك" إلى رصيد شقير في توثيق علاقته بالمكان الذي كان له أثر كبير في تشكيل وعيه الإنساني بجوانبه كافة؛ السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية، وهو الكتاب الثاني الذي يخصصه شقير للفتيات والفتيان بعد "القدس مدينتي الأولى" للحديث عن سيرة المكان، ليقدم سيرة رام الله هنا كما يراها، وكما يشعر بها، وكما هو منتم إليها بكل جوارحه وميوله النفسية والعقلية.
يكتب شقير في هذه السيرة بداية علاقته بمدينة رام الله وعلاقتها بمدينة القدس مدينته الأولى، فمنذ النص الأول في السيرة يعلن اقتران المدينتين في علاقة ظلت حاضرة حتى آخر سطر فيها، فيقول: "تسكنني تماما مثل القدس... رام الله هي مدينتي الثانية بعد القدس"/ ص3، وكأنه يحيل القارئ إلى ما كتبه سابقا عن القدس في كتاب "القدس مدينتي الأولى"، ولعل تتابع الأحداث ومنطقيتها فرضت أحيانا إعادة بعض ما كتبه في الكتاب الأول وخاصة عن اعتقاله وتخفيه في نابلس/ ص24، أو عن إبعاده عن فلسطين كما جاء في ص 28، وربما لمح القارئ شيئا من معلومات سابقة هنا أو هناك بحكم العلاقة التي تربط الكاتب بمكانين معا، تردد بينهما في طفولته وصباه ورجولته، ثم بعد عودته من المنفى كهلا محمّلا بتجربة ناضجة وثرية ومتعددة الجوانب.
يظهر في السيرة أنها لم تكن سيرة مكان وحسب، بل كانت سيرة تاريخ حافل بإنجازات الكاتب، فقد رسمت السيرة عبر سرد الوقائع المكثفة كيفية تشكل الوعي ومصادر ذلك من إقباله على الكتب وقراءتها التي لم ينقطع عنها في أي مكان حلّ فيه حتى في السجن، وارتياده للسينما حيث كان هناك ثلاث دور للسينما، ومشاركته في الحياة السياسية، وممارسته للعمل السياسي السريّ، واطلاعه على المجلات الأدبية الصادرة في فلسطين في حينه، أو تلك "القادمة من القاهرة ودمشق وبيروت"/ ص13، وهو في كل ذلك يرسم المشهد الذي عاشه دون أن يلجأ إلى التحليل أو القراءة التفكيكية لعلاقته بمكان عاشه، ليضع التجربة كما هي دون حكم بين يدي الفئة المستهدفة من القراء، من الفتيات والفتيان.
ويواصل الكاتب محمود شقير في كتابه الصادر حديثا عن جمعية الزيزفونة لتنمية ثقافة الطفل "رام الله التي هناك"، مسيرته في الكتابة لليافعين بعد "قالت مريم.. قال الفتى"، و"أنا وجمانة"، و"الربّان"، و"كوكب بعيد لأختي الملكة"، و"أحلام الفتى النحيل"، و"القدس مدينتي الأولى"، ويضاف هذا الكتاب "رام الله التي هناك" إلى رصيد شقير في توثيق علاقته بالمكان الذي كان له أثر كبير في تشكيل وعيه الإنساني بجوانبه كافة؛ السياسية والاجتماعية والثقافية والفكرية، وهو الكتاب الثاني الذي يخصصه شقير للفتيات والفتيان بعد "القدس مدينتي الأولى" للحديث عن سيرة المكان، ليقدم سيرة رام الله هنا كما يراها، وكما يشعر بها، وكما هو منتم إليها بكل جوارحه وميوله النفسية والعقلية.
يكتب شقير في هذه السيرة بداية علاقته بمدينة رام الله وعلاقتها بمدينة القدس مدينته الأولى، فمنذ النص الأول في السيرة يعلن اقتران المدينتين في علاقة ظلت حاضرة حتى آخر سطر فيها، فيقول: "تسكنني تماما مثل القدس... رام الله هي مدينتي الثانية بعد القدس"/ ص3، وكأنه يحيل القارئ إلى ما كتبه سابقا عن القدس في كتاب "القدس مدينتي الأولى"، ولعل تتابع الأحداث ومنطقيتها فرضت أحيانا إعادة بعض ما كتبه في الكتاب الأول وخاصة عن اعتقاله وتخفيه في نابلس/ ص24، أو عن إبعاده عن فلسطين كما جاء في ص 28، وربما لمح القارئ شيئا من معلومات سابقة هنا أو هناك بحكم العلاقة التي تربط الكاتب بمكانين معا، تردد بينهما في طفولته وصباه ورجولته، ثم بعد عودته من المنفى كهلا محمّلا بتجربة ناضجة وثرية ومتعددة الجوانب.
يظهر في السيرة أنها لم تكن سيرة مكان وحسب، بل كانت سيرة تاريخ حافل بإنجازات الكاتب، فقد رسمت السيرة عبر سرد الوقائع المكثفة كيفية تشكل الوعي ومصادر ذلك من إقباله على الكتب وقراءتها التي لم ينقطع عنها في أي مكان حلّ فيه حتى في السجن، وارتياده للسينما حيث كان هناك ثلاث دور للسينما، ومشاركته في الحياة السياسية، وممارسته للعمل السياسي السريّ، واطلاعه على المجلات الأدبية الصادرة في فلسطين في حينه، أو تلك "القادمة من القاهرة ودمشق وبيروت"/ ص13، وهو في كل ذلك يرسم المشهد الذي عاشه دون أن يلجأ إلى التحليل أو القراءة التفكيكية لعلاقته بمكان عاشه، ليضع التجربة كما هي دون حكم بين يدي الفئة المستهدفة من القراء، من الفتيات والفتيان.
لقد حملت السيرة - كأي سيرة – علاقات كاتبها ليس في المكان وحده، بل بأناس ذلك المكان من الناس العاديين إلى المثقفين والكتاب والأصدقاء، وكل من كان له أثر في مسيرته الثقافية والحزبية، فتحدث عن المدارس التي عمل فيها معلما، وتحدث عن الطلاب وعلاقته بهم، وأظهر حبه لمهنة التعليم، كما أطلع القارئ على علاقنه بالكتاب والمثقفين والسياسيين، من أمثال محمود درويش، ومحمد البطراوي، وغسان حرب وبشير البرغوثي وسميحة خليل وفائق ورّاد ونزيه قورة، وغيرهم الكثير.
ولم تقف السيرة - على الرغم من عدد صفحاتها القليل مع ما تختزنه وتختزله وتكثفه من تجربة امتدت إلى ما يزيد عن خمسين عاما - عند تلك الحدود من العلاقات الإنسانية، بل تعرضت كذلك لمسائل أخرى ذات قيمة ودلالة في رسم معالم السيرة الناجحة، فرسمت معالم المكان وتطوراته، وعرّج على التطور العمراني للمدينة، والتطور الفكري، وكيف أن المدينة أصبحت مركزا سياسيا وثقافيا تجتذب إليها الناس أجمعين من عمال وطلبة وموظفين ومثقفين، ويشير إلى تلك الظروف الطبيعية والموضوعية التي جعلت من رام الله متعايشة مع كل "تلك التحولات"، ومستفيدة منها، من أجل "إثراء تجربة المدينة في التحول إلى مدينة يتعزز فيها المجتمع المدني، وتصان فيها الحريات العامة، ومن ضمنها الحريات الشخصية"/ ص48.
كذلك يشهد شقير على ما آلت إليه أوضاع المدينة وما فيها من تغلغل للمنظمات غير الحكومية، تلك المنظمات التي يرى شقير أنها "خربت الحركة الوطنية الفلسطينية، وأفسدت كوادرها، وسحبتهم من أمكنتهم الطبيعية وأخذتهم إلى العزلة عن الناس، وإلى الاهتمام بمصالحهم الخاصة على حساب الصالح العام"/ ص60
ومن ثنايا هذه السيرة الباذخة لمدينة رام الله، يبث الكاتب رسائل غير مباشرة للجيل الجديد في الدرجة الأولى قبل أي قارئ آخر، منها ما كان تربويا أو سياسيا أو أخلاقيا دون أن يعتمد الوعظ المباشر، بل كان يسرد أحداثا تتضمن رسائل موجهة، واثقا بالقارئ كي يستنتجها، ربما يحاكمها بإيجابية أو بسلبية، لذلك يترك له المجال ليقول وجهة نظره فيما يقرأ؛ ولعل أكثر تلك الرسائل وضوحا، اهتمام الكاتب بالقراءة، وانشغاله بهذا الفعل طوال سنين حياته وفي كل مكان حل فيه، حتى عندما كان يتحاور مع الكتاب والمثقفين والأصدقاء كحواره مع الشاعر محمود درويش، كان يشكو من عدم إقبال الناس على القراءة، كما يعزز هذه العادة عنده إقباله على القراءة في الظروف الصعبة، في وحدته، في سجنه، في اختبائه من الاحتلال، وتردده على مكتبة بلدية البيرة مستعيرا، أو تردده على المكتبات التي تبيع الكتب في المدينة، كل ذلك يحمل رسالة واضحة لأجل الاهتمام بالقراءة وتنميتها في عقول الفتيات والفتيان.
وأما ثاني هذه الرسائل فإنه لم يحذر الفتيان والفتيات من الانخراط في الأحزاب، ولكنه بيّن ما قد ينجم عن هذه التجربة من مخاطر، وعليه، فإن من أراد الانخراط في العمل السياسي والحزبي فليكن مستعدا للنتائج مهما كانت قاسية، وفي هذا السياق ذاته، وإمعانا من الكاتب في عدم فرض توجهه السياسي لم يذكر اتجاهه السياسي، وفي هذا درس بليغ، فلا يريد أن يتحول إلى ما يشبه المنظر السياسي لحزبه ولو من طرف خفي؛ احتراماً لجمهرة القراء المختلفين عنه سياسيا، فالمهم هو المبدأ بحد ذاته، عدا أنه يحمّل الكلام بلاغته المناسبة من إخراجه حسب مقتضى الحال، على حد تعريف الجاحظ للبلاغة، فلم يسرفْ ولم يطل في الكلام، فكانت القوالب اللفظية على قدر معانيها.
كما أن الكاتب يحمل رسالة إنسانية تجاه المكان الذي عاش فيه، وكان له أثر فيه، فظل يحمل لرام الله وفاء وحبا وحنينا لن ينقطع، حتى أنه فكر في زيارة تلك البيوت التي سكنها، وظل يدافع عن المدينة ولا يريد أن يحملها أوزارا ليست هي كمدينة مسؤولة عنها، لذلك فإنه يقول صريحا: "ولكن لماذا تتحمل رام الله وزر ذلك كله سواء أكان صحيحا أم غير صحيح"، لتبقى تلك المدينة "تسعى لأن تكون مدينة عصرية رغم المعيقات"/ ص60، ولم يكن هذا الوفاء مقصورا على المدينة بل امتد إلى الوفاء لأصدقائه ولكل من عمل معهم، يشاركهم أفراحهم وأحزانهم، فيتذكر من غاب منهم ويحنّ لأيامهم، ويتمنى طول العمر لمن بقي منهم على قيد الحياة.
وأحبّ أن ألفت النظر إلى رسالة أخرى مهمة تتعلق بالإبداع والصحة اللغوية، فالكتاب بلغته كتاب قريب المأخذ وآمن لغويا، يخلو من الأخطاء، ويساعد الفئة المستهدفة على تحسين لغتها، فلغة الكتاب سهلة ميسورة، بعيدة عن التعقيد في اللغة، متجنبا كل تلك المصطلحات الكبيرة التي قد تُعيق الفهم، والاندماج في الكتاب وفكرته وأحداثه؛ فيدفع القارئ من الفتيات والفتيان إلى تسجيل يومياتهم، وتوثيق ما يمرّ بهم من أحداث بلغتهم البسيطة التي تؤدي وظيفتها الإبداعية والفكرية بسهولة ويسر، فالكتاب بذلك يشبه المادة التعليمية التطبيقية ذات الأثر الإيجابي في هذه الناحية.
لقد انتهج الكاتب في بناء سيرته هذه بناء مقطعا تحت عناوين فرعية كثيرة، فلم يلجأ إلى السرد التفصيلي المتتابع، وإنما كان يختار محطات بارزة في مسيرته، فكان هناك "39" عنوانا، واللافت للانتباه أن كل تلك العناوين عدا العنوان الأول "هي والقدس"، كانت مصدرة باسم إشارة "ذلك" أو "تلك" أو "هؤلاء"، لتتناغم تلك العناوين مع عنوان السيرة بشكل عام "رام الله التي هناك"، ليكشف لنا الكاتب عما يكمن من سرّ وراء هذه التسمية عندما خاطب نفسه قائلا: "ما زلت أرى نفسي في بعض الأحيان ذلك الفتى الذي جاب شوارع المدينة لم يتبدل رغم عصف الزمان وما زال يشعر أن رام الله التي عرفها قبل سنوات عديدة تغفو في قلبه مثل فتاة بريئة تنتظر محبا مخلصا طال انتظاره"/ ص52، وكأن شقير بهذا المقطع من "رام الله التي هناك" يجبرنا على استعادة قول أبي تمام:
كم منزل في الأرض يألفه الفتى
وحنينه أبدا لأول منزلِ
وبهذا يكون الكاتب محمود شقير قد قدم سيرة للمكان والتاريخ والأشخاص بأسلوب سردي يناسب الفئة المستهدفة، ويعمق وعيها الفكري نحو مسائل متعددة، ويعمق انتماءنا للمدينة المكتنزة بالحب والثقافة والتاريخ، لنردد معه ما قاله في ثنايا السيرة "لرام الله المجد والثناء"/ ص42
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق