الجمعة، 4 مارس 2016

أدب العائدين: محمود شقير «مديح لنساء العائلة»


بقلم: عادل الأسطة


أصدر الأدباء العائدون نصوصاً أدبية كثيرة، تنتمي إلى أجناس أدبية مختلفة، وكان الجنس الأبرز هو الكتابة النثرية السيرية التي امتزجت فيها سيرة الكاتب بسيرة المكان الذي كانت له به علاقة قبل 1967، أو 70 أو 75، وانقطعت صلته به، بسبب الهجرة أو الإبعاد، وبرز في هذا المجال أربعة كتب تكاد تتميز عن غيرها وتتشابه فيما بينها، "منازل القلب" لفاروق وادي، و"رأيت رام الله" لمريد البرغوثي ـ وأيضاً "ولدت هناك، ولدت هنا" ـ و"ظل آخر للمدينة" لمحمود شقير، ويضاف إلى هذه كتاب محمود درويش "في حضرة الغياب"، مع أن الأخير ركز على حياة مؤلفه منذ طفولته حتى عودته إلى غزة فرام الله.

ولكن الأدباء العائدين لم يقتصروا في الكتابة على موضوع العودة، فقد فرغوا تجربتهم في نص أو نصين، ثم عادوا يكتبون في موضوعات أخرى، بل وأخذوا ينظرون لكتابتهم الجديدة تلك التي ابتعدت عن موضوعات أدب المقاومة التقليدية، وفق الفهم الذي ساد لأدب المقاومة، وأخذوا ينظرون لفهم جديد لهذا المصطلح، وقد برز هذا واضحاً في كتابات محمود درويش ومريد البرغوثي ومحمود شقير، وعبروا عن فهمهم الجديد بمناسبات عديدة سواء في أثناء توقيعهم كتبهم الجديدة (محمود درويش، كزهر اللوز أو أبعد) أو في مقابلات أجريت معهم، أو في مقالات كتبوها، وهكذا اختلف أسلوب كتابتهم أيضاً، كما اختلفت الموضوعات التي طرقوها.

لم يقتصر التغير في الكتابة على الموضوعات ونبرة الكتابة أيضاً، بل وجدناهم يطرقون أجناساً أدبية لم يكونوا يطرقونها من قبل، فمريد البرغوثي الذي لم يكتب أي كتاب نثري، أصدر كتابين نثريين، ومحمود شقير أخذ يكتب الرواية، بعد أن عرف كاتب قصة قصيرة لعقود، وهناك من الشعراء من كتب الرواية، مثل غسان زقطان وخالد درويش.

وإذا كان هناك من درس ظاهرة تحول الشعراء إلى روائيين، مثل عمر القزق، فإن ما يستحق أن يتوقف أمامه هو تحول كتّاب القصة القصيرة إلى روائيين، وأبرزهم محمود شقير.

العودة إلى مراحل سابقة:

اللافت للنظر في كتابات العائدين أن نصوصهم الأولى التي أنجزوها بعد عودتهم تمحورت حول تجربة العودة ـ هنا أستثني محمود درويش، فديواناه اللذان أصدرهما ما بين 1996 و2000 طرقا موضوعات مختلفة ـ ، وقد لاحظنا هذا في كتابات يحيى يخلف "نهر يستحم في البحيرة" وفاروق وادي ومريد البرغوثي ومحمود شقير في نصوصهم الوارد ذكرها آنفاً، وفي قصائد أحمد دحبور أيضاً، ولاحقاً في قصائد محمود درويش "لا تعتذر عما فعلت" (2003)، ولكن أكثر هؤلاء أخذوا، بعد نصهم الأول بعد العودة، يكتبون عن مراحل زمنية تعود إلى فترة الأربعينيات والخمسينيات والستينيات، وهنا يمكن الإشارة إلى يحيى يخلف ومحمود شقير، فقد كتب الأول عن فترة اللجوء، وعاد شقير إلى مراحل أسبق ـ أي فترة ما قبل 1948 "فرس العائلة" وواصل الكتابة عن عقود لاحقة، وهو ما يبدو جلياً في "مديح لنساء العائلة" (2015).


مديح لنساء العائلة:

في ص170 من الرواية ما يقول لنا فكرتها وموضوعها، بل وطريقة قصها أيضاً. إن الشخصية المحورية في الرواية، الأكثر حضوراً أيضاً، وهي شخصية الموظف في المحكمة الشرعية، تفكر في الكتابة مراراً، في كتابة سيناريو فيلم، وفي كتابة نص مسرحي، وفي كتابة رواية، وأخيراً تستقر على كتابة رواية يكون القصد من ورائها "تدوين وقائع حياة عائلة العبد اللات" بل وربما يتسع الموضوع ليشمل تدوين "وقائع حياة العشيرة، رغم تفرعها إلى عائلات كثيرة" ويعتقد محمد أن رغبته في تدوين وقائع حياة العائلة التي انتقلت من البريّة، إلى مشارف القدس، وعايشت أزمنة شتى وحكاماً متعددين، يعتقد أن رغبته هذه ظلت كامنة في أعماقه رغم إقلاعه عنها من قبل.


وأعتقد جازماً أن رغبة موظف المحكمة الشرعية هذه، هي رغبة، محمود شقير نفسه، وما قاله محمد هو ما ينجزه شقير: قلت: سأدوّن كل شيء تقع عليه عيناي، سأحتفظ في دفاتري بكل كلمة تنطقها أمي وضحا، أو أبي منان أو أي شخص آخر في العائلة" "سأكتب عن ظلم الأتراك وإرسالهم الشباب إلى ساحات القتال النائية سأكتب عن الانتداب البريطاني، وعن تعسفه بحق البلاد والعباد، عن حماية جنود الانتداب لأنفسهم من غارات الثوار بوضع السجناء الفلسطينيين في سيارة أمام سيارات الجنود خوفاً من الكمائن والألغام. سأكتب عن المذابح التي نظمتها العصابات الصهيونية ضد الفلسطينيين لتهجيرهم من البلاد. سأكتب عن ضياع البلاد، عن وحدة الضفتين، وعن القمع السياسي الذي كان سائداً قبل هزيمة سبعة وستين، سأكتب عن الهزيمة، عن عسف المحتلين الصهاينة، عن...."


وإذا كانت "مديح لنساء العائلة" هي الجزء الثاني لـ "فرس العائلة"، فإنها ستبدأ الكتابة عن فترة 50 ق20 وستستمر إلى بدايات 80 ق20. هذا يعني أن شقير هنا يكتب عن ثلاثة عقود ونيف وما مرت به القدس وضواحيها إبانها، وسيخص الكاتب النساء بقسم لا بأس به.

وإلى العنوان:


ظاهر العنوان يذهب إلى أن الكاتب سيخص نساء العائلة بالمديح، ولم يكن هذا العمل هو الأول الذي يأتي فيه شقير على المرأة في العنوان، ففي 1986 أصدر مجموعته القصصية "طقوس للمرأة الشقية"، ويبدو أن عذابات المرأة ومعاناتها وهمومها تشكل فكرة مركزية من أفكار الكاتب، وتقبع عميقاً في وعيه ولا وعيه على السواء.
والنساء اللاتي يكتب عنهن شقير كثيرات، ومنهن من تستحق المديح، ومنهن من تستحق الهجاء أو الشفقة أو العطف أو الرثاء. ما أكرمهن إلاّ كريم وما أهانهن إلاّ لئيم. يقول الحديث النبوي، ولكن شقير ينطلق من منطلق اجتماعي ماركسي، لا من منطلق ديني. وسيعثر القارئ على نساء لا فضيلة لهن، فهن ثرثارات ماكرات لئيمات ينفقن أوقاتهن في الغيبة والنميمة وفضح أعراض غيرهن والتدخل في شؤون أخريات.


هؤلاء النسوة يستحققن الهجاء أو الرثاء أو الشفقة، ولكن هناك مقابلهن نساء مثقفات وواعيات ومحترمات، وهؤلاء يستحققن المديح، فلماذا أطلق شقير القول؟ في ص164 ما يوضح هذا خير توضيح. إن سناء تقف إلى جانب زوجها بالباع والذراع، وكذلك تفعل مريم، وهما نموذجان إيجابيان، خلافاً لأخريات، والأخريات نمّامات مفسدات يحاولن الإيقاع بين محمد وزوجته سناء، ومع ذلك يرى محمد، ومن ورائه محمود شقير، أنهن "في نهاية المطاف نساء طيبات جديرات بالمدح لا بالذم، وما اشتغالهن باستغابة الناس سوى تعبير عن فراغهن وبؤس أحوالهن."

ويخيل إليّ أن الطيب هو محمود شقير الذي ينصر المرأة ظالمة أو مظلومة.
______________

26 تموز 2015/ جريدة الأيام/ رام الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق