*محمود شقير
ينعقد اليوم وغدًا في مقر المؤتمر الوطني الشعبي للقدس، مؤتمر مكرّس للمدينة المقدسة تحت شعار: القدس ثقافة وهوية، وسأقول في جلسة الافتتاح:
في مثل هذا اليوم، الثاني من تشرين الأول العام 1187 ميلادية، تم تحرير القدس من حكم الفرنجة الذين حكموا المدينة ثمانية وثمانين عامًا. كانت بلاد المسلمين آنذاك نهبًا للتجزئة وللانقسامات، كما هو حالنا الآن، ما جعل الطامعين فيها يتجرأون على سيادتها وعلى كرامتها الوطنية وكرامة أهلها، إلى أن جاء القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي، الذي وحّد البلاد والعباد، واستحثّ العزائم لتحرير المدينة المقدسة من دنس الغزاة.
وها نحن اليوم نقف أمام إحدى سخريات التاريخ الذي يأتي مرة على شكل مأساة، وأخرى على هيئة ملهاة، إذ نلتقي في مؤتمر حول القدس، والقدس تخضع لاحتلال إسرائيلي يستهدف المدينة اليبوسية الكنعانية العربية الفلسطينية بمسلميها ومسيحييها، ليجعلها رغم حقائق التاريخ والجغرافيا، ورغم طبيعتها المكرسة للحب وللتعددية وللسلام، عاصمة أبدية لدولة الاحتلال. وليس ثمة من أبد سوى الحقيقة التي تقول إن هذه المدينة كانت عربية قبل آلاف السنين، وستبقى عربية على امتداد الزمان.
نلتقي الآن، لنحتفي بالقدس من دون الذهاب إلى التاريخ، تاريخها المحتشد بشتى مظاهر الرقي والعمران، مثلما هو محتشد بالمآسي وبالغزوات التي تعرّضت لها، وبعدد الغزاة، فكانت النتيجة أن انتهت الغزوات واندثر الغزاة، وبقيت المدينة التي كانت تضمّد جراحها بعد كل غزوة، وتعيد بناء نفسها لتبقى قادرة على التجدّد والبقاء.
ونلتقي لنحتفي بها من دون الغوص في أبعاد قدسيتها التي جعلتها مستقرًّا للديانات السماوية، تهفو إليها قلوب البشر أينما كانوا، وتتجسد فيها القيم الدالة على الانفتاح والتسامح والعدالة والأمن والأمان.
نلتقي الآن لنحتفي بعلاقة المدينة بالناس، ناسها الحقيقيين الصامدين فيها المضحّين من أجلها، المرتبطين بمصيرها، ولنحتفي بعلاقة الناس بالمدينة التي أسبغت عليهم من روحها، فلا تنفصل سماتهم عن سمات مدينتهم التي عاشت معهم وعاشوا معها مختلف أنواع المعاناة، وتجرّعت مثلما تجرعوا صنوف العسف التي جربها عليها وعليهم الغزاة، فلم تهن ولم يهنوا، وظلوا ثابتين على ولائهم لمدينتهم مثلما ظلت وفية لهم مثل أمّ رؤوم.
ذلك أن المدينة ليست مجرد حجارة وأسوار وأزقّة وشوارع وأسواق، وهي ليست مجرّد مساجد وكنائس مكرسة للعبادة وللوصل بين الأرض والسماء، بل هي قبل ذلك وبعده مكان لتفاعل ناسها معها ولتفاعلها معهم، بكل ما تمثله من حضارة ومقدسات وتاريخ وجغرافيا ومكانة وحضور، وبما تمثله من مركز للحداثة وللتنوير كما كان حالها في النصف الأول من القرن العشرين، ومن حيز لانتشار التزمت وقيم الريف المحافظة فيها كما هو حالها الآن. إنها المدينة التي تعرّف بمواطنيها، وهي التي يعرّف مواطنوها بها في كل مرحلة من مراحل الهبوط أو الصعود. إنها مدينة مواطنيها الباقين هناك وحدهم أمام العزل والحصار والقمع والتهجير، وهي الباقية وحدها هناك أمام هجمة الأسرلة والتهويد إلى حين.
نلتقي لنحتفي بالمدينة في ذكرى تحريرها على يد صلاح الدين، ولنصغي على امتداد هذا اليوم واليوم الذي يليه، لأوراق فكرية حول حضور المدينة في حياة الناس، وحضور الناس في حياة المدينة، ولنستمع لشهادات أدبية عن علاقة بعض كتابنا وكاتباتنا بالقدس وعلاقتها بهم، ولنستمع أيضاً لقراءات شعرية عن القدس، وعما تشتمل عليه القدس من قيم نبيلة ومن فضاءات، ولنسعد بجوائز القدس التي ستمنح لثلاثة ممن حملوا وما زالوا يحملون رايات الدفاع عن القدس.
الحياة الجديدة/ البيرة 2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق