*محمود شقير
قرأت قبل أيام خبرًا في إحدى صحفنا المحلية مفاده أن مركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان، "أطلق حملة لإعادة طرح مادة الفلسفة في المنهاج المدرسي في فلسطين. وأوضح المركز في بيان صحفي أن الحملة تأتي من منطلق أن مساق الفلسفة سيساعد في فتح مدارك الطلبة في طرائق التفكير والحكم على الأمور بعقل منفتح بعيدًا عن القوالب الفكرية الجاهزة. وقال البيان: إن إعادة الاعتبار لهذه المادة الأساسية يخدم تدعيم ثقافة التنوع والاختلاف وقبول الآخر الفكري والديني والثقافي داخل المجتمع الواحد ويعزز ثقافة التسامح".
وبحق، فإن هذه المبادرة تستحق الإسناد الذي ينبغي أن يقوم به الكتاب والمثقفون ورجال الفكر والتربية في بلادنا، بالنظر إلى أهميتها وضرورتها، خصوصًا ونحن نرى العنف وعدم التسامح والعصبية القبلية التي تطبع بطابعها كثيرًا من مظاهر سلوكنا وتصرفاتنا، وبالنظر إلى ضعف حالة الجدل الفكري في معاهدنا وجامعاتنا، وكذلك العزوف عن التحصيل الثقافي سواء أكان ذلك في المدارس أم في الجامعات.
وفي تقديري، أن حذف مادة الفلسفة التي كانت تدرّس في مدارسنا في سنوات سابقة، جاء في سياق الاستخفاف بهذه المادة، وعدم تقدير جدواها على عقول الناشئة من أبنائنا، كما أنه جاء في سياق عدم الاهتمام بتطوير مناهج الدراسة في مدارسنا وفي جامعاتنا على النحو المطلوب.
فرغم الجهود التي بذلها رجال تربية متخصصون في شؤون المناهج المدرسية بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، فقد ظلت هذه المناهج أقلّ من المطلوب بكثير، ولم تنجح في مخاطبة العقل باعتماد أساليب الاستقراء والاستنتاج والاستنباط بديلاً من الحفظ والبصم والتلقين والميل إلى حشو الأدمغة بالمعلومات. كذلك، فإنها لم تحدث التوازن المطلوب بين ماضينا الذي ينبغي علينا أن نأخذ أفضل ما فيه، وأن نترك ما لم يعد يتواءم مع منطق العصر والحياة، وبين حاضرنا الذي ينبغي أن نعزّزه بعلوم العصر ومعارفه ورؤاه، التي تستمد جدواها من حاجتنا الملحة للتطوّر ومن تطلعنا نحو مستقبل أفضل.
وأما ما جنيناه، فهو ما نراه الآن: انفصال بين المدرسة والجامعة من جهة وبين المجتمع واحتياجاته الحقيقية من جهة أخرى، ما أدّى ويؤدّي إلى تخريج أجيال من الشباب ليس لهم من همٍّ، وهم على مقاعد الدراسة، سوى الحفظ للحصول على أعلى العلامات التي تؤهلهم للحصول على شهادات، قد تساعدهم في الحصول على وظائف، تمكّنهم من العيش الكريم. أما أن تكون سنوات الدراسة فرصة لصقل الشخصية ولتطوير ملكة التفكير والابتكار والإبداع، فهي آخر ما يفكر فيه الطلاب في بلادنا، ومناهج الدراسة هي المسؤولة عن ذلك بطبيعة الحال.
إن شطب مادة الفلسفة من المناهج الدراسية في فلسطين يعني حرمان الطالب من معارف كثيرة، من بينها: التراث الفلسفي الإسلامي الذي كان مزدهرًا في زمن سابق، هذا التراث الذي استند من دون انغلاق على التراث الفلسفي اليوناني، الذي تمّ استيعابه وحفظه والإضافة إليه ومن ثم نقله إلى الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، ليكون مرتكزًا لهذه الثقافة للخروج من ظلام تلك العصور. وكانت فلسفة ابن رشد التي نصّت على أنه لا تعارض بين الفلسفة والدين خير شاهد على فضل هذا الفيلسوف المسلم على الفلسفة الأوروبية، إلى حدّ ظهور تيار في الفلسفة الأوروبية أطلق عليه اسم الرشدية نسبة إلى ابن رشد.
إن إعادة الاعتبار لمادة الفلسفة في مدارسنا قد تكون بداية الطريق لإعادة النظر على نحو جذري في المناهج الدراسية التي ينبغي لها أن تكون مواكبة للعصر ولاحتياجات المجتمع، وذلك للإسهام في خلق أجيال جديدة نحن أحوج ما نكون إليها في هذا الزمن الصعب.
________
الحياة الجديدة/ البيرة 2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق