الخميس، 22 سبتمبر 2016

القدس في النصوص الإبداعية



*محمود شقير



هذه الأيام، ثمة مراسلات بيني وبين الناقد الأستاذ الدكتور محمد عبيد الله حول القصص التي كتبتها عن القدس، وكذلك حول القصص القصيرة جدًّا التي نشرتها في ستة كتب. ولقد أعجبني وصف الصديق الناقد لأحدها وهو "احتمالات طفيفة"، بأنه كتاب قصصي وليس مجموعة قصصية، بالنظر إلى أن قصصه يكمل بعضها بعضًا. 

وقد سألني: صوّرت القدس في بعض القصص من منظور قروي بحت، أي عبر منظور القرويين الذين يزورونها للصلاة أو للتبضع، ولم تصور أو تقدم شخصيات من القدس نفسها في تلك المرحلة غير شخصيات هامشية أو باهتة إلى جوار الشخصية القروية المتسيدة، ألم تفكر آنذاك بتصوير القدس من داخلها وتقديم بعض شخصياتها الأساسية بعيداً عن المنظور القروي؟
أجبته: أعتقد أن نشأتي القروية مسؤولة عن هذا المنحى الذي أشرت إليه. كانت القرية متغلغلة في خلايا جسدي، أما المدينة فلم أعشها بعمق. كنت آتيها نهاراً وأغادرها قبل غياب الشمس. لم تكن لي علاقة معايشة داخلية لتفاصيلها لكي أكتب عن شخوصها باستفاضة. وقد كتبت ذات مرّة قصة بعنوان "فتاة الصالة" عن نادلة في مقهى بالقدس، ولم أنشرها لأنها لم تعجبني. وكتبت قصة عن استشهاد رجاء أبو عماشة في القدس، ولم أنشرها كذلك للسبب نفسه. 

ثم إنني كنت متأثراً بتلك النزعة الرومانسية التي سادت في بعض نماذج من الأدب المصري في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين وبدايات الستينيات، نزعة العودة إلى الريف هرباً من جور المدينة وضجيجها، (وأعتقد أن هذه النزعة كانت بتأثير من بعض المدارس الأدبية الأوروبية). وقد كنت مبالغاً في موقفي. فالقدس لم تكن في ضخامة القاهرة لكي أتذمر من ضجيجها أو من جورها.

وحين انتميت إلى اليسار طبّقت بعض مفاهيمه النظرية بشكل متعسف على الواقع الذي أعيشه. نظرت إلى القرية باعتبارها المكان الذي يعيش فيه الفلاحون الفقراء والعمال الكادحون، فانتصرت لها على المدينة التي رأيت فيها المكان الذي يستقرّ فيه البورجوازيون المستغلِّون، وقد عبرت عن ذلك في قصة "والنار ذات الوقود"، وقصة "خبز الآخرين" على سبيل المثال.

وبعد هزيمة حزيران 1967 اتسعت نظرتي إلى الحياة والمجتمع بتأثير قراءاتي المتنوعة، وبالاستفادة من التجربة الملموسة، حيث امتزج الطبقي بالوطني في نظرتي إلى القدس. وانتبهت إلى حقيقة أن في المدينة عمالا وحرفيين، لهم إلى جانب دفاعهم عن حقوقهم الاقتصادية انتماء وطني يدفعهم إلى التضحية بأرواحهم حين تتعرّض مدينتهم للاحتلال.

وحين عدت من المنفى القسري الذي دام ثماني عشرة سنة، وجدت قريتي قد أصبحت حياً من أحياء القدس. هنا امتزج القروي بالمدني في قصصي اللاحقة، وإنْ ظل الطابع القروي وبالذات في ما يتعلق بلغة الحوار في القصة القصيرة هو الأكثر بروزاً. وظهرت المجموعتان الساخرتان: صورة شاكيرا، وابنة خالتي كوندوليزا ضمن هذا السياق، وأصبح المكان الذي تدور فيه الأحداث هو الحي أو الحارة المقدسية.

ومن غير شك، فإن إحساسي بالقرية قد ضعف في السنوات العشرين الأخيرة، سواء لجهة المعايشة أم على صعيد الكتابة، ربما لأنني عشت في بيروت، وعمان، وبراغ، وزرت في العقود الأربعة الماضية مدنًا كثيرة. وربما لأن قريتي أصبحت حيًّا سكنيًّا ببعض مواصفات مدنية، ولأنني منذ عدت من المنفى أُكثرُ من التجوال في أسواق القدس وشوارعها، وأقضي أوقاتًا غير قليلة في مقاهيها ومطاعمها ومنتدياتها الثقافية. وكان من نتيجة ذلك كله كتابي "ظل آخر للمدينة"، وفيه وصف للقدس وسيرة لها. ثم جاء بعده كتابان مكرّسان لها، وفيهما غوص في تفاصيلها الداخلية، هما: القدس وحدها هناك، و مدينة الخسارات والرغبة.

______



الحياة الجديدة/ البيرة 2013

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق