الجمعة، 7 أكتوبر 2016

الصين.. ألف رواية في العام



محمود شقير

زيارة الصين تغري بالكثير من الكلام. حطت بنا الطائرة ذات مساء في مطار بكين. وكنا تسعة كتاب. حللنا ضيوفاً على الجامعة المعمدانية في هونغ كونغ، للمشاركة في ورشة دولية للكتابة تستمر شهراً، وكان لا بد من استكمال هذه الورشة في إحدى جامعات بكين. كان الموضوع الرئيس للورشة يتمحور حول فهم العالمين العربي والإسلامي. كنا سبعة كتاب وكاتبات من البلدان العربية والإسلامية، بالإضافة إلى كاتبين صينيين: واحد من تايوان والآخر من الأرض الرئيسة: الصين. 

الصين ابتدعت شعاراً براغماتياً ملائماً للعلاقة بينها وبين هونغ كونغ، بعد رحيل المستعمرين الانجليز وعودة هذه الأخيرة إلى الوطن الأم العام 1997 . الشعار يقول في اختصار مريح: بلد واحد ونظامان. (الشعار نفسه مطروح على تايوان التي ما زالت ترفضه حتى الآن!) هذه البراغماتية التي وطد أسسها الزعيم الصيني الراحل دينغ زهاو بينغ، لم تقتصر على العلاقة مع هونغ كونغ، بل إنها تبدت أول الأمر في التجربة الاقتصادية الجديدة للصين، التجربة التي فتحت بعض مناطق البلاد للاستثمارات الأجنبية الأمريكية وغيرها، وبررت الانفتاح على بلدان العالم قاطبة للتبادل الاقتصادي معها، على أسس من التكافؤ والمساواة. 

لم تعد الصين متحمسة، كما كان الحال في السابق، للدعاية الثورية المبثوثة في الصحف والنشرات والكتب وأجهزة الإعلام، أو عبر تقديم الأسلحة والأموال لحركات وطنية أو اجتماعية في العالم الثالث على وجه التحديد. لم تعد الصين تتدخل في شؤون الدول الأخرى بغض النظر عن طبيعة أنظمتها. ولم تعد ترى في تباينها الفكري والإيديولوجي والسياسي عن الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول الرأسمالية، سبباً لإشعال الخصومات الإعلامية أو للعودة إلى الحرب الباردة من جديد، ( مع أن أمريكا ما زالت تمارس كلتا الحربين الباردة والساخنة في هذه المنطقة أو تلك من مناطق العالم المختلفة) فلا وجود اليوم في أجهزة الإعلام الصينية، (في حدود ما أعرف) لبرامج موجهة للتحريض ضد الخصوم الطبقيين، أو لإشعال نار الثورة الدائمة، تمهيداً لانتصار الاشتراكية التي ما زالت تتمسك بها الصين، على الرغم من التزامها على نطاق واسع بسياسة السوق الحرة في عدد من مدنها الكبيرة المهمة، بعد أن أطلقت عليها اسم اشتراكية السوق.

الصين اليوم تلتزم المنافسة الحرة بين التجارب الاقتصادية المتنوعة، وكذلك بين الأفكار المختلفة والثقافات. كما تلتزم في الوقت نفسه بالمحافظة على السلام العالمي والصداقة بين الشعوب، وهي في هذا الإطار تؤيد بالوسائل السلمية نضال الشعوب من أجل تحررها، (يحظى الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة باهتمام ملحوظ من جانب السياسة الخارجية الرسمية للدولة الصينية).

والصين اليوم منفتحة إلى حد كبير على ثقافات الشعوب الأخرى. والمثقفون الصينيون لديهم اطلاع جيد على الثقافة الغربية، ويتأثر الكتاب الشباب منهم بموجات الكتابة الرائجة في الغرب، خصوصاً تلك التي تندرج في إطار ما بعد الحداثة، والكتابة عن الجنس على وجه الخصوص. قالت لنا إحدى الكاتبات لدى زيارة قمنا بها إلى مقر اتحاد الكتاب الصينيين في بكين: لدى جيل الشباب رغبة عارمة في كتابة روايات يطغى فيها الجنس على كل شيء سواه. قالت: تصدر في الصين ألف رواية جديدة كل عام. وثمة اهتمام كبير بالقراءة وبالكتب لدى الشعب الصيني صاحب الثقافة العريقة.

وأنا هناك في هونغ كونغ، قرأت رواية لكاتبة صينية تقيم في لندن. هذه الكاتبة غادرت بكين بعد أحداث ساحة تيان آن مين (بوابة السلام السماوية) الشهيرة العام 1989 ، وتم احتضانها في الغرب مثلما تم احتضان غيرها من الكاتبات والكتاب الصينيين الذين غادروا وطنهم، لأغراض الدعاية المعادية للصين ولنظامها الاجتماعي. بعض هؤلاء الكتاب، لديهم مواهب حقيقية تبرر شهرتهم، وبعضهم لا يمتلكون هذه المواهب، وليس لديهم من مزايا سوى أنهم جزء من آلة الدعاية الغربية، التي تتخذ من الغياب النسبي للديموقراطية في المجتمع الصيني، سبباً للتحامل على الصين وعلى نظامها الذي لا يخلو بطبيعة الحال من نواقص وأخطاء.

الكاتبة اسمها هونغ ينغ، واسم روايتها "صيف الخيانة" تتحدث فيها عما وقع في ساحة تيان آن مين، ثم تجعل للجنس المكشوف حضوره الملموس في الرواية، حتى إن الرواية تنتهي في اللحظة التي تعتقل فيها بطلتها، وهي منغمسة في حفلة جنس جماعي في منزل من منازل بكين. 

وأنا في هونغ كونغ أيضاً، استلفت نظري شعار لطالما رددته محطات التلفزة الصينية، مفاده أن الصين تتغير وأنها تغير معها العالم. والسياق العام لبرامج التلفزة هذه، يوحي بأن التغيير يتم في ضوء هذه المباراة السلمية في الاقتصاد والفكر والفن والثقافة، وهو أمر مثير للتفاؤل وللارتياح حيث إن ثمة أفقاً للخروج من الطريق الذي يبدو مسدوداً للوهلة الأولى، بعد كل الغطرسة التي يتغطرسها الأمريكان.

مع ذلك، فثمة كثيرون في الغرب، وبالذات في مراكز صنع القرار، ينتظرون اللحظة المناسبة لتفكيك الصين، وهم يراهنون على قناعتهم بأن الرأسمالية بدأت انتشارها الحثيث في الصين، انتشاراً وافداً مع مطاعم المكدونالدز ومع البيبسي كولا والهامبرغر والثقافة الاستهلاكية، ورؤوس الأموال والشركات. الصراع السلمي هناك مستمر تحت السطح وعلى المكشوف أيضاً، ولعل الأكثر اقتراباً من منطق الحياة ومن خدمة المصالح الحقيقية للناس، ومن ضرورات الحاضر والمستقبل، هو الذي سوف يفوز في نهاية المطاف. ويبدو من متابعة مجريات هذا الصراع، أن التجربة الصينية الراهنة ما زالت حتى الآن قابلة لأكثر من احتمال.

في هونغ كونغ، أثناء حفل افتتاح ورشة الكتابة الدولية، نقل الدكتور باتريك هو، أحد المسؤولين البارزين هناك، المسألة كلها إلى أفق حضاري جديد، وهو يستعين بالتاريخ مستذكراً طريق الحرير الأولى والثانية، اللتين كرستا التبادل التجاري والثقافي بين الصين والعديد من الأمم في أزمنة سابقة، ومبشراً بطريق الحرير الثالثة، الممتدة نحو العالم كله، المعتمدة على إبداعات العقول البشرية هذه المرة، لا لتأسيس امبراطورية القوة، وإنما لتوسيع امبراطورية العقول. 

إن تثمير إبداعات العقول لما فيه خير البشرية جمعاء، يشكل الأفق الذي لا بد منه إذا ما أردنا أن نربح أنفسنا ونربح العالم.

صحيفة الرأي/ عمّان 2006 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق