الثلاثاء، 11 أكتوبر 2016

هونغ كونغ مرة أخرى


*محمود شقير


منذ عودتي من زيارة دامت شهراً لهونغ كونغ، وأنا متعلق بالمدينة، مهتم بأخبارها التي أتابعها على الإنترنت، أو أعثر عليها في الصحف.

على الإنترنت، أقرأ عن مدينة مفتوحة لكل الثقافات، وللسياح ورجال الأعمال وللتجارة ورؤوس الأموال التي ترغب في استثمار سريع أو غير سريع. ففي المدينة ثلاثمائة بنك أجنبي تتصرف بمبالغ طائلة من المال وتنجز الكثير من الصفقات. وفيها أحزاب سياسية بعضها مؤيد للحكومة المركزية في الوطن الأم، الصين. وبعضها الآخر مناوئ للاندماج في المجتمع الذي يقوده الحزب الشيوعي الصيني، ويطبق فيه سياسات اقتصادية لا تروق لأعداد غير قليلة من أهل هونغ كونغ الذين تحرروا العام 1997 من استعمار بريطاني دام مائة وستة وخمسين عاماً، وبقي الكثير من آثاره ماثلاً حتى اليوم في المستعمرة المحررة سلمياً، فلم يقم ولاة الأمر فيها بطمس تلك الآثار، ومنها على سبيل المثال، أسماء الشوارع التي ما زال الكثير منها يحمل أسماء شخصيات وأماكن انجليزية، كما أن اتجاه سير السيارات في الشوارع ما زال يسير على النظام البريطاني المعروف.

وأنا هناك، كنت أتساءل بيني وبين نفسي: هل يشعر الصينيون من أهالي هونغ كونغ بالدونية إزاء مستعمريهم الأوروبيين جراء سنوات الاستعمار الطويلة، وما يرافقها في العادة من استعلاء يمارسه السادة الحكام على الأتباع المحكومين؟ وهل يشعرون بالتقصير لأنهم لم يحرروا بلادهم بالنضال وبالتضحيات، وبالصراع المرير مع المستعمر؟ في واحد من حواراتنا العديدة مع أساتذة الجامعة، قالت أستاذة جامعية وهي تعلق على المرونة التي تتعامل بموجبها الصين مع هونغ كونغ وتايوان، إن لدى الصينيين قدرة على الصبر والاحتمال، والتوصل إلى حلول لأعقد القضايا عبر التفاهم والحوار! إنما السؤال: هل يصلح هذا الأمر مع مختلف القضايا الوطنية ومع مختلف أنواع المستعمرين والمحتلين؟

وقد لاحظت أن الغالبية العظمى من أهل هونغ كونغ يحملون أسماء أوروبية. قال لي أستاذ جامعي: بدأ الأمر منذ زمن بعيد وفي المدارس على وجه التحديد، استجابة من أولياء أمور الطلبة لرغبات المدرسين الانجليز، الذين كانوا يجدون صعوبة في التلفظ بالأسماء الصينية، فتحولت هذه الأسماء من سنة إلى أخرى، إلى أسماء أوروبية مع الاحتفاظ بالأسماء الصينية! غير أن اللغة الانجليزية ظلت محصورة في إطار المدارس والجامعات وبعض القطاعات الحكومية، رغم أنها هي واللغة الصينية تعتبران اللغتين الرسميتين للبلاد. أما في الأسواق وفي الحياة اليومية العامة فإن اللغة الصينية هي لغة التخاطب بين الجميع، وثمة نسبة غير قليلة من مواطني هونغ كونغ لا يعرفون اللغة الانجليزية.

وأنا هناك، لاحظت الجدية في العمل وفي التحصيل العلمي والثقافي وفي الأنشطة اليومية المختلفة، بحيث يصح القول إن الصينيين شعب من الناس العمليين الذين يحترمون الوقت والعمل في الآن نفسه، وأهل هونغ كونغ ليسوا استثناء في هذا المجال، رغم سنوات الاستعمار الطويلة التي عاشتها البلاد.

وكنت كل صباح أرى المدينة وهي تنعم بطقسها الرائق المعتدل، وتغتبط في الوقت نفسه بنظامها الحياتي الدقيق، حيث الانضباط سمة بارزة في المدينة، وحيث الأمن مستتب بشكل عام، وذلك لتوفير أفضل الظروف وأكثرها أمناً لرأس المال الوافد إلى المدينة، وكذلك للأعداد الكبيرة جداً من السياح. في المطار، وفي الشوارع وفي المحلات التجارية الكبيرة، وفي الجامعات وعلى مداخل المؤسسات الخاصة والعامة، ترى بكل وضوح، وعلى نحو مبالغ فيه في بعض الأحيان، رجال الشرطة بأسلحتهم الخفيفة، وهم على أتم استعداد للتعامل السريع مع أي فوضى أو اضطراب.

ورغم ذلك، لا يخلو مجتمع هونغ كونغ من بعض المظاهر السلبية التي ترافق أي مجتمع رأسمالي حديث، قائم على التقسيم الطبقي المجحف بين الناس. فالصحف اليومية تزودني دوماً بأخبار متنوعة قادمة من هناك. بالطبع ثمة أخبار عن المظاهرات التي تجري بين الحين والآخر، مرة ضد العولمة فيجري التصدي لها وتفريقها، ومرة أخرى ضد فكرة الاندماج مع الوطن الأم، فيجري التصدي لها وتفريقها أيضاً. وثمة أخبار تتعلق بأزمة الفرد العادي هناك. شخص يائس يرمي نفسه من نافذة بيته في الطابق العشرين لكي يموت ميتة شنيعة بسبب أزمة ما! شخص آخر ينتحر داخل شقته لأنه لم يعد يطيق التعقيدات التي تراكمها هذه الحياة. لصوص محترفون يتنكرون في ملابس رجال الشرطة ثم ينهبون المحلات التجارية في الليل، فيتصدى لهم رجال الشرطة الحقيقيون، ويجري تبادل إطلاق النار بين الفريقين. أصحاب كازينوهات جشعون يستغلون العاملين في الكازينوهات، فيضطرونهم إلى خدمة المقامرين الكثيرين دون توقف، حتى إنهم لا يعطونهم فرصة للذهاب إلى الحمام لقضاء حاجاتهم! وعلاوة على ذلك فثمة من يمارسون الغش والخداع، ومن تضيق بهم سبل العيش فيأخذون ابنهم المقعد الذي لا يستطيع الكلام، إلى ساحة من ساحات المدينة، ثم يتركونه فوق كرسيه المتحرك ويبتعدون، يعثر عليه رجال الشرطة ولا يعرفون من هم أهله الأقربون! ومع هذا وذاك، يستمر صخب الحياة في هونغ كونغ، وتشهد جامعاتها ومراكزها الثقافية ومتاحفها الكثير من مظاهر النشاط الثقافي والفني. 



إن هونغ كونغ حافلة بالمفاجآت المفرحة حيناً، المحزنة في بعض الأحيان، ومع ذلك، يظل لها وللحياة الثقافية والفنية فيها، رونق لا يُنسى ولا يغيب عن البال.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق