الاثنين، 24 أكتوبر 2016

عن هموم الكتابة


قبل عام بالتمام والكمال كنت في براغ أتهيأ للعودة الى عمان. يومها كتبت مقالة، أشرت فيها الى أنني لم اكتب طوال فترة إقامتي في براغ سوى القليل القليل، وقلت "هأنذا أعود الى عمان، لعلي أكتب شيئا فأشعر بالطمأنينة وراحة البال".


وحقيقة الأمر أنني لم أكتب شيئا طوال هذا العام، ليس لأنني عازف عن الكتابة أو زاهد فيها، بل لأن الشروط التي تتحقق فيها الكتابة الإبداعية لم تتوفر لي، ولا يبدو أنها ستتوفر في مستقبل قريب، وأنا أكتب عن هذا الأمر، ليس لاستعراض هم شخصي، وإنما لتشخيص ظاهرة تأخذ بخناق الكثيرين من المبدعين الفلسطينيين وتهدد بقتل حوافز الإبداع في صدورهم أو إخمادها لفترات قد تقصر وقد تطول.


وأقصد هنا ظاهرة الانتماء الحزبي للتعبير عن الهم الوطني الفلسطيني وما يستتبعه من نشاطات يومية وارتباطات وعلاقات، وما يترتب على ذلك كله من مهمات تجعل المبدع المنهمك فيها مقيدا على مدار الأيام والأسابيع بدوامة من التفاصيل التي لا تترك له وقتا للقراءة ولا تتيح له الانفصال قليلا عن اليومي المباشر، لكي يتأمل من مسافة ما صورة الوضع في شمولها، وليعيد ترتيب أجزاء هذه الصورة على النحو الذي يتطلبه الإبداع، فيصبح المبدع والحالة هذه كالغراب الذي ضيع مشيته، فلا هو قادر على ملاحقة اليومي والاستجابة لمتطلباته، ولا هو قادر على مواصلة نشاطه الإبداعي على نحو صحيح، فيتحول –والعياذ بالله- الى كاتب ضيق الأفق، فقير الخيال، يسيء لجلال قضيته الوطنية من حيث لا يقصد بأي حال من الأحوال.


والحق فإن مسؤولية كبرى، تقع على عاتق التنظيمات التي يستبد بها الهوس لملاحقة ما هو يومي، آني، ومباشر على حساب ما هو مستقبلي، استراتيجي، وذو فعالية بعيدة وتأثير مستديم مما يجعلها غير مكترثة بتطور قدرات الباحثين المنتمين الى صفوفها أو الانتباه الى صقل ملكات المبدعين الحائزين على عضويتها، وتمكينهم من الظهور على الملأ بإبداعات متميزة عميقة مما يقود في نهاية المطاف، إلى اغتراب المبدعين عن تنظيماتهم، واضطرارهم –عن حق أحيانا وعن غير حق أحيانا أخرى- إلى التخلي عن عضويتهم فيها لأنهم لم يجدوا أنفسهم في داخلها، ولم يتمكنوا من الحفاظ على تألقهم باعتبارهم مبدعين قبل أن يكونوا دعاة سياسيين.


بالطبع لا أقصد أن أقيم تعارضا من أي نوع كان بين التنظيم الحزبي وممارسة العمل السياسي من جهة وبين الإبداع من الجهة الأخرى. فالأمر الطبيعي أن تتفتح ملكات المبدع وتزداد تجربته الحياتية خصوبة وغنى عبر الانتماء وممارسة العمل السياسي، شريطة أن يتفهم التنظيم جيدا طبيعة المبدع وحدود ممارسته السياسية. أما أن يستمر التعاطي مع المسألة على نحو اعتباطي، كما هو الحال في تنظيماتنا السياسية الفلسطينية فذلك هو البؤس المؤكد والداء العضال.


بالنسبة لي، فإن انهماكي كل يوم في مهمات بعيدة عن الكتابة الإبداعية يجعلني شديد القلق كثير التذمر، وعلى الرغم من تفهم الرفاق المحيطين بي لتذمري وإبدائهم الاستعداد لتوفير كل ما من شأنه أن يساعدني على الكتابة، فإنهم –للأسف- ينسون كل وعودهم الطيبة أمام التزاحم المفرط للمهمات اليومية التي تنتظر الإنجاز.

فمن يدلني على المعادلة السديدة التي توفق على نحو متوازن بين إبداع المبدع ونشاطه السياسي؟ من؟

___________

صوت الوطن تموز 1991/ العدد 23 السنة الثانية





ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق