*محمود شقير
يغيب الحوار عن حياتنا على نحو عجيب، نفتقده في الأسرة التي تتجلى فيها سلطة الأب الواحد الأحد، وفي المجتمع الذي ما زال يغلب عليه الطابع البطريركي، رغم كل محاولات التحديث، وفي المدرسة التي يتأكد فيها منهج الحفظ والتلقين، وفي الجامعة التي تتضاءل فيها فرص البحث العلمي الرصين، وفي الصحيفة المدجنة التي تضبط خطواتها على إيقاع الرقيب، وفي المجلة التي تستنيم على موعد صدورها الأسبوعي أو الشهري الرتيب.
يغيب الحوار عن حياتنا، وتستفحل سلطة الرأي الواحد، ربما لان بورجوازيتنا العربية لم تنجز ثورتها على النحو المطلوب، فأصبحت كالمنبت لا ظهراً أبقى ولا أرضا قطع، وتصالحت في منتصف الطريق مع قوى الإقطاع المحلي (ما أبقى على القيم القديمة والتقاليد البالية) ومع القوى الاستعمارية الدولية (ما حجب فرص التطور الاقتصادي المستقل) ولم تعد، بفعل تسلط شرائحها الطفيلية والبيروقراطية على مقدرات المجتمع، معنية بالاعتماد على العلم بوصفه قوة إنتاجية، فاكتفت، من الغنيمة، بدور الوكيل المعتمد للإمبريالية العالمية أو دور الشريك الصغير، وأنتجت لنا مجتمعات هجينة تابعة تتداخل فيها المعتقدات والرؤى وأنماط المعيشة على نحو غريب.
ويغيب الحوار لأن الرأي الآخر مقهور مدحور، أو هو في أحسن الأحوال لا يحظى إلا بهامش ضئيل، بفعل سياسة الحكام المتسلطين أو القوى الطبقية السائدة، التي لها مصلحة في التحكم والنفوذ، فلا حرية للأحزاب، ولا تعددية سياسية، ولا مؤسسات دستورية، ولا علاقة بين الحاكمين والمحكومين سوى علاقة الولاء والخضوع في الظاهر والعلن، والنقمة والتذمر في السر والخفاء، ويغيب الحوار لأن الديمقراطية المنقوصة التي تحققت في بعض الأقطار، ما زالت مقيدة بالكثير من القيود، بحيث لا تتمكن قدرات الناس من الانطلاق ولا تستطيع الأحزاب السياسية، بوصفها المعبر عن تطلعات الناس، شق طريقها عميقاً في قلب مجتمعاتها بفعل القيود.
لذلك يغيب الحوار عن حياتنا، ويتخذ في أحيان شتى –إن وجد- شكل التخوين وتبادل الاتهامات وتصيد الأخطاء، فيتقوقع كل واحد منا على نفسه، معتقداً أنه وحده مالك للحقيقة دون نقصان، ويتقوقع كل حزب على تصوراته في شتى القضايا والشؤون ظاناً أنه وحده الجدير بقيادة المجتمع دون سواه، ما يوقعه، عن قصد أو دون قصد، في نزعة التعصب والمغالاة، وانعدام القدرة على محاورة الآخرين.
ولذلك، يتميز واقعنا السياسي والثقافي ببعض مظاهر المحاباة والمجاملة والنفاق والتغاضي عن التجاوزات والأخطاء، فيكثر في صفوفنا المتسلقون والمرتزقة والبيروقراطيون الذين يضيقون ذرعاً بالحوار، لأنه حركة وهم يعشقون الدعة والسكون. ويتميز واقعنا كذلك، ببعض مظاهر الجهل النابع من حجب المعلومات، ونقص المعرفة التي لا تستحثها الرغبة في البحث والاستقصاء، والأمثلة على ذلك عديدة، يمكن العثور عليها بتتبع بعض أنشطتنا السياسية والثقافية دون عناء.
إن نظرة سريعة على الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية التي كانت تظهر على صفحات بعض الصحف والمجلات العربية في الخمسينيات والستينيات، إبان احتدام النضال الوطني ضد الاستعمار وأحلافه، والبحث عن أفق مستقل للتطور الاقتصادي، ترينا إلى أي حد كانت مفيدة ونافعة تلك الحوارات، وإلى أي مدى كان لها دورها في تعميق رؤيتنا للكثير من القضايا والمشكلات. صحيح، أن هزائمنا المتتابعة، واستفحال القمع السلطوي في بلداننا، وفداحة الهجمة الإمبريالية الصهيونية علينا، وانتشار القيم الاستهلاكية التي أشاعتها حقبة النفط بين ظهرانينا، قد أرهقت عزائم بعضنا، غير أن ذلك كله لا يبرر غياب الحوار عن حياتنا، خصوصاً ونحن نرى رأى العين، بأن أحداً لم يعد قادراً الآن على الادعاء باحتكار الحقيقة والصواب!
فلماذا وإلى متى يغيب الحوار عن حياتنا على هذا النحو العجيب؟
___________
*صوت الوطن 15/5-15/6/ 1992 / العدد 33 السنة الثالثة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق