*محمود شقير
تفتقر حياتنا الثقافية هذه الأيام الى البيانات الثقافية التي درج على إصدارها، في فترات سابقة، وحتى وقت قريب، بعض المبدعين أو بعض التجمعات الإبداعية، التي لها توجهات ترغب في نشرها وتعميمها على سائر المبدعين وعلى جماهير القراء سواء بسواء.
وتتسم هذه البيانات،عادة، بمغايرتها للسائد والمألوف، وخروجها عليه، الى هذا الحد أو ذاك، باعتبار أنها ليست نزوة طارئة، أو مجرد استعراض، والا فما الداعي إليها إذا جاءت إضافة كمية الى ما هو معروف؟ أو جاءت لتعبر عن مزاج طائش لا ينطلق من استقراء صحيح للظروف! ومن هنا، نلفي هذه البيانات، وقد تضمنت في ثناياها، وجهة نظر جديدة تجاه قضية ثقافية ما، أو تجاه لون ما من ألوان الكتابة الإبداعية، كالشعر مثلا أو المسرح أو سواهما من ألوان الإبداع، أو تضمنت إعلانا عن ولادة مدرسة أدبية أو اتجاه فني يكسر دون هوادة قواعد الكتابة وأسسها التي أصبحت في حاجة الى تجديد، ويبشر بأساليب جديدة، تحمل الكثير من المغامرة والتجريب.
ولا تظهر مثل هذه البيانات، عادة، إلا في عز الأزمات، وعند المنعطفات الحادة، التي تبرر المراجعة وإعادة النظر في كل شيء، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، وفي العلاقة بين الطبقات، ولا تظهر الا لإدانة ممارسات بعينها، وللارتقاء بواقع المجتمع والناس الى ذرى جديدة لم تكن متيسرة من قبل، ولتمكين الإبداع من التعبير بصدق أكثر عن الإنسان وعن مكنونات نفسه، وعما يعتمل فيها من عواطف وتطلعات.
أو كأن هذه البيانات، تأتي في أحيان أخرى، باعتبارها رد فعل غاضب، على واقع سياسي واجتماعي وثقافي بالغ الرتابة والركود، فكأنها الحجر الذي يلقيه طفل مشاغب في بركة آسنة، لعل مياهها تتموج بعض الشيء، فلا تظل راكدة على نحو فظيع. ومع الأسف الشديد فان بعض هذه البيانات، ورغم ما تشتمل عليه من مواقف وآفاق، تموت قبل أن يسمع بها الناس، أو ينتبه إليها المبدعون المعنيون، ربما لان رتابة الواقع أقسى من كل التوقعات، وربما لان مثل هذه البيانات لم تعثر على المفصل الصحيح الذي تبدأ من عنده امكانات التغيير والتصحيح والتجديد. ويكفي أن أشير في هذا الباب الى البيان الثقافي الذي أصدره قبل أشهر عديدة، أخوة لنا وزملاء في رابطة الكتاب الأردنيين، تحت شعار التجديد الثقافي، فلم نسمع شيئا من بعد عن هذا البيان، ولم يترك في واقعنا الثقافي أي اثر ملموس.
وأشير في هذا المقام أيضا، الى بيانات ثقافية عديدة صدرت في السنوات الخمس والعشرين المنصرمة، بعضها كان له تأثيره في حركة الإبداع العربي الحديث، ومنها بيان أدونيس بعد نكسة حزيران، وبيانه عن الحداثة، والبيان الذي أصدره الناقدان المقيمان في الأرض المحتلة محمد البطراوي وصبحي شحروري حول موقفهما من الأدب عموما ومن عملية الإبداع، ومنها بيان الدكتور محمود صبح، المقيم في إسبانيا، حول الشعر الحديث، وبيان لبعض الشعراء العرب المقيمين في بلدان الاغتراب، بعد أن ضاقت عليهم بلدانهم التي تفتقر الى الحرية والديمقراطية واحترام إنسانية الإنسان.
الآن، ورغم ما يزخر به واقعنا العربي من أزمات وانكسارات، ورغم حاجتنا الشديدة الى التغيير، والى الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، فإن أحدا لا يسمع عن بيانات ثقافية جديدة تتمرد على الثبات والجمود، لان الأنظمة العربية الحاكمة، أو أغلبها، قد نجحت، ولو بشكل مؤقت، في تهميش الثقافة الوطنية، وتقليل فاعليتها إلى أكبر حد مستطاع، وفي الفصل بينها وبين الناس على نحو فاجع وغريب، ومع ذلك، فما زالت الحاجة ماسة إلى مزيد من البيانات الثقافية التي ترفع لواء التجديد.
_________
صوت الوطن 15/6-15/7/ 1992 / العدد 34 السنة الثالثة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق