الأحد، 20 نوفمبر 2016

نحن والعقلانية



*محمود شقير 


تبدو العقلانية غائبة في الكثير من مناحي حياتنا المعاصرة، ويبدو الكثير من مناحي هذه الحياة مفتقرا الى العقلانية، متناقضا معها على نحو صارخ وعجيب.


فمن يدقق في ممارسات الكثير من الأجهزة الرسمية العربية، هذه الأيام، بدءا من مؤسسات الحكم وانتهاء بأجهزة الإعلام سيجد انه أمام فيض من الكلام، وأمام ركام من الأفعال التي لا تحترم العقل، ولا تقيم له أي اعتبار، بل إنها تغيبه على نحو مقصود في أغلب الأحيان.


فإذا أردنا الوقوف عند بعض التفاصيل الحسية، فيكفي أن نشير الى غياب المعايير الدقيقة في حياتنا السياسية، بحيث تختلط الأوراق فلا يعود الناس قادرين على التمييز بين هزائمنا وانتصاراتنا، لان لدينا كما يبدو قدرات لغوية، بوسعها أن تقلب الهزيمة نصرا، وبوسعها أن تحمل الناس على أجنحة اللغة المهومة، التي لا تجد لها سندا في الواقع، ولا حجة في ثناياه، ما يسهم في تغييب العقل، وفي الاستهانة بالتحليل العلمي المستند الى الوقائع، ويجعلنا نبدو كمن لا يفهم دروس التاريخ، ولا يستوعب ما فيها من عظات وعبر، ويجعلنا كذلك، ندخل كل تجربة من نقطة الصفر دون غيرها، ثم نكرر الأخطاء نفسها، ونخرج بالاستنتاجات نفسها، ونظل ندور وندور وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا.


إن مواقفنا المتشابهة من كل الهزائم، التي مرت بنا، ابتداء من نكسة حزيران وانتهاء بحرب الخليج الأخيرة، لا تعني سوى إحلال الرغبات الذاتية بديلا عن الواقع الموضوعي، وإعلاء منطق التبرير على حساب النقد الهادف، والمراجعة المنهجية الدقيقة.

وإذا كانت العقلانية ليست وصفة جاهزة يمكن العثور عليها دونما جهد أو اجتهاد، فهي كذلك ليست أمرا عسير المنال، إذا أردنا التعاطي معها بصدق وإخلاص للخروج مما نحن فيه من مأزق واحتقانات. وإذا كانت الديمقراطية السياسية هي المناخ الصحيح لانتشار العقلانية بين ظهرانينا، والمسؤولية في هذا الشأن تقع أساسا على عاتق الأنظمة والحكومات، فان أفضل المواقع التي يمكن للعقلانية أن تنطلق منها هي الجامعات، وأجهزة الإعلام المختلفة من محطات تلفزة ودوريات وصحف. كما أن أحزاب المعارضة على اختلاف منابعها الدينية والقومية واليسارية تتحمل بدورها مسؤولية مؤكدة تجاه تعميم العقلانية في صفوف أعضائها وفي أوساط الناس، وذلك بالكف عن استخدام الصيغ الجاهزة، وإعطاء العقل فرصته المشروعة في الشك والمحاكمة والتمحيص والانتقاء، بحثا عن الحقيقة.

وان الكتاب والأدباء الذين يرصدون حركة الواقع العربي، فلا يرون على السطح إلا ما يبعث على التشاؤم والانزعاج، مدعوون بدورهم الى ايلاء الجانب التنويري في كتاباتهم الإبداعية حصة ما، وبغير ذلك سنظل عرضة للمزيد من الهزائم والإخفاقات، وستظل العقلانية –مع الأسف الشديد- غائبة عنا، هي في واد ونحن في واد.
______



*صوت الوطن 15/2-15/3/1993/ العدد 42 السنة الرابعة









ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق