السبت، 9 أبريل 2016

«مديح لنساء العائلة» لمحمود شقير.. اسم آخر للشتات





 *بقلم: طارق إمام

تقوم رواية «مديح لنساء العائلة» للروائي الفلسطيني محمود شقير (دار نوفل، بيروت) على استقراء مرحلة جوهرية في خارطة التحول الفلسطيني، تتخذ من قراءة التحولات القبلية أو العشائرية منصة لها، راصدةً تحولها من الانسجام الجمعي إلى الفردية التي تحطم مرة بعد أخرى أسطورة الاتساق. تنطلق الرواية، المدرجة ضمن اللائحة الطويلة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية)، من سنوات النكبة وحتى مطلع ثمانينات القرن العشرين، حيث مأساة صبرا وشاتيلا وانبثاق حلقة جديدة من حلقات المقاومة. وفي القلب من هذه الخارطة، حيث يستكمل شقير في هذه الرواية ما بدأه في روايته السابقة «فرس العائلة»، تنهض النساء كبطلات في سياق تحول قبلي (تعكسه روائياً قبيلة العبد اللات) سار بالتوازي مع التحول الفلسطيني.
«بعد قليلٍ من التمنّع، رضيت رسمية بارتداء السروال الداخلي القصير، ورافقت زوجها، عاشق سميرة توفيق، إلى سهرات “نصّ الليل”. نساء عشيرة العبد اللات لم يسكتن طبعًا على هذا السلوك. مثلما لم يسكتن على نجمة التي خلعت الثوب الطويل وارتدت الفستان بعد مغادرتها راس النبع وإقامتها في المدينة. سناء أيضًا، الموظّفة في بنك، لقيت نصيبها من مرّ الكلام بعد أن نزلت مياه البحر ولوّحت الشمس بياض ساقيها. كلّ ذلك ووضحى، سادس زوجات منّان، كبير العشيرة ومختارها، لا تزال تتوجّس من الغسّالة والتلفزيون المسكونَين بالعفاريت». هكذا يرصد السارد هبوب الحداثة وتأثيراتها على النساء خاصة، بلغة تقترب في أحيان كثيرة من الحكي الشفاهي، في سيولة المحكي الذي يترى بعفوية. غير أن الجذر الذي يشد جميع شخصيات هذه الرواية، هو تحقيق النزوع الفردي على جثة الاتفاق الجمعي، وهو ما ينتهي، مرة بعد أخرى، بالخسارات الفادحة. ذلك الاتفاق هو ما يمثله «منان»، الأب بالمعنى الرمزي الذي يتجاوز وظيفته ضمن القبيلة. منان هو إله القيم القبلية التي ما تلبث أن تتفكك مع التحولات المتلاحقة. منان، الذي يجسد صورة عتيقة للرجل الشرقي، مطلق الحرية والسلطة، ورث وظيفة المختار أباً عن جد. إنها الشخصية الأسبق على لعبة التحولات التالية، والتي ما تلبث أن تغترب مع التغيرات اللاهثة في السياق. يتعرض منان لطعنة غير متوقعة تمتد بها يد ابنته بالذات. تهرب «فلحة» لتتزوج من أحد شباب المخيمات، حيث لا تجد ظهيراً سوى العم عباس. ويضطر الأب لاحقاً، مجبراً مضطراً، للصفح عنها. تحول كهذا ما كان مصيره ليصير الرضوخ للجموح الفردي على حساب العرف الجمعي، فمصير فلحة الوحيد هو أن تقتل انتقاماً لشرف القبيلة.
بالمنطق نفسه، يتزوج «محمد الكبير» من مريم النصرانية، ضارباً بالثقافة والتقاليد عرض الحائط، انسجاماً مع قناعته الفردية. لن تمثل هذه الزيجة خروجاً على الأعراف وحسب، لكنها ستفتح باباً آخر أمام محمد الكبير، سيدلف منه لعالم النضال، منضماً للحزب الشيوعي على يد أخيها، ليتعرض للسجن أكثر من مرة، قبل أن يُنفى من القدس إلى عَمّان.
الخروج عن الاتفاق الجمعي يجد مظهراً ثالثاً مع فليحان، الذي يتزوج بدوره «رسمية»، إحدى فتيات المخيم، ويهرب معها ليتزوج بها، قبل أن يلقى عقابه بطلق ناري من ابن عمها وخطيبها السابق والذي تحول إلى فدائي، يقعده على كرسي متحرك. فليحان يخرج عن الاتفاق الأخلاقي نفسه عندما يعمل في التهريب مجنداً عدداً من رجال القبيلة، وليصير فلحان نموذجاً للأثرياء الجدد في المجتمع الفلسطيني.
بدوره يخرج أدهم عن الاتفاق عندما يعيش مغامرة الزواج من سائحة أثناء عمله في أحد الفنادق، ويعيش تحولاً غير متوقع بالتحاقه بالعمل الفدائي، قبل أن يتلقى الحكم على يد قوات الاحتلال بالسجن المؤبد.
لن يشذ محمد الأصغر عن قاعدة الخروج عن الاتفاق، فكاتب المحكمة الشرعية والمأذون، يتزوج بامرأة مطلقة تركها زوجها لأنها لا تنجب. يتخذ محمد قراره متحملاً النقد اللاذع وإنكار القبيلة. «كان المخيم يغرق في الوحل بعد مطر شديد. وكنت أتلفت في كل اتجاه، فأرى بيوتاً متطامنة كما لو أنها تشعر بالخجل، وصرت كلما زرت قرية فلسطينية أو مدينة تلبّسني هذا الإحساس. أرى الخجل مهيمناً على الأمكنة وعلى البيوت، على القرى والمدن، فيتضاعف شعوري بالصغار».
وفي اتجاه آخر، ربما لا يقل فداحة، يقرر عطوان الهجرة إلى أقصى العالم، إلى البرازيل، حيث العالم الجديد. يتزوج ببرازيلية (إيذاناً بمولد سلالة جديدة في أرض أخرى لن تحمل من الماضي سوى الاسم). يختفي عطوان، مكتفياً برسائل متفرقة، تعرضها الرواية وقد نابت ليس فقط عن صوته، بل عن حضوره كذات إنسانية.
خريطة مصائر متشابكة ترسمها «مديح لنساء العائلة» لتقف على تناقضات الشخصية الفلسطينية فنياً، في سياق فكرة «الخروج»، سواء أكان الخروج من عباءة الماضي، أو القبيلة، أو الموروث، وهو الخروج الذي قلما يفلح.. لترسم الرواية، عبر محكياتها الصغيرة، محكيتها الكبيرة ومشهدها الكبير.
عن الانترنت/ جريدة عُمان

8 / 2 / 2016

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق