*محمود شقير
قبل يومين، قامت إحدى زميلات الفيسبوك بمراقبة ما كتبه على صفحاتهم، خلال أربع وعشرين ساعة، 255 فلسطينيًا وفلسطينية، فلم تجد من بينهم سوى ستة أشخاص تذكروا النكبة في ذكراها الخامسة والستين.
وبالطبع، فإن هذا العدد يبدو قليلاً للغاية، ولربما كان ذلك بسبب الوقت المبكر لعملية المراقبة. فالكتابات تكثر في العادة قبل حلول الذكرى بيوم واحد، وتصبح كثيرة جدًا في يوم الذكرى، وأرجو أن تقوم الزميلة نفسها بمراقبة هذه الظاهرة في هذا اليوم، الأربعاء، فإن كان عدد الكتابات قليلاً، فهذا يعني أن ثمة خللاً ما.
ذلك أننا لا نبرع في شيء قدر براعتنا في الكتابة عن المناسبات، ولا نكتفي بالكتابة، بل إننا نتكئ على الخطابة التي يتألق فيها خطباء لا حصر لهم، ونلجأ إلى البيانات السياسية التي تصدرها قوى سياسية وهيئات اجتماعية، حيث تتنوع القوى والهيئات وتتشابه إلى حد كبير مضامين البيانات، ما يجعل الإقبال على قراءة الغالبية العظمى منها محدودًا، وما يجعل الخطب التي تستبد بها الحماسة غير متساوقة مع واقعنا الذي ما زال عاجزًا عن التصدي الناجع للعدوان.
فالنكبة، الكارثة التي ألحقتها بنا الغزوة الصهيونية ما زالت ماثلة للعيان، وما زالت مستمرة في أشكال شتى وتجليات، وإلا فماذا نسمي هزيمة حزيران 1967 ؟ وماذا نسمي مصادرة الأرض وهجمة الاستيطان؟ وخطط تهويد القدس وأسرلتها؟ وماذا نسمي عمليات المداهمة والقتل والاعتقال واحتجاز ما يزيد عن خمسة آلاف أسيرة وأسير في سجون الاحتلال؟ وماذا نسمي التنكر لحقوق اللاجئين الفلسطينيين في وطنهم والمحاولات الحثيثة لشطب حق العودة الذي نصت عليه الشرائع الدولية؟
وأنا لست ضد الاستمرار في تناول مختلف جوانب النكبة خدمة للأجيال الجديدة التي لم تشهد وقوع النكبة أول مرة، لكنها تعاني وستظل تعاني من آثارها إلى حين. إنما الخشية كل الخشية من أن يفقد الكلام قدرته على التأثير حينما يتكرر وتتشابه معانيه. والخشية كل الخشية أن تتحول النكبة إلى مجرد مناسبة نتذكرها مرة في السنة، ونقيم لها المهرجانات وننظم المسيرات ونصدر البيانات ونلقي الخطب، ونملأ مواقع التواصل الاجتماعي بما يروقنا من جمل منتقاة ومن شروحات، ثم نلقي عن كاهلنا العبء الثقيل، ونخلد إلى الراحة لسنة أخرى قادمة تحل فيها الذكرى من جديد، وهكذا دواليك.
فلماذا لا تكون ذكرى النكبة، إلى جانب الاهتمام بما هو إعلامي وتعبوي وسياسي، فرصة للمراجعة ولنقد الذات وللنظر في ما أنجزناه ولم ننجزه حتى الآن؟ ولماذا لا تكون فرصة لوضع الخطط المدروسة والمبادرة إلى إنجازها للرد على استمرار النكبة، وعلى ما تفرزه من تجليات خطيرة وممارسات؟ ولماذا نكتفي بتوجيه الكلام والخطب والقصائد لأنفسنا ولمن حولنا من عرب ومسلمين، ولا نخاطب العالم على نحو شامل ومثابر، حول أبعاد قضيتنا بوصفها واحدة من أهم قضايا الحرية في العصر الحديث؟ لماذا لا نشرح من خلال حملات دعائية منظمة أوضاع أسرانا المهينة في سجون الاحتلال؟ ولماذا لا نوضح المخاطر التي تتهدد القدس على أيدي المحتلين؟ ثمة أعداد كبيرة من شعوب العالم، وبالذات في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية تعتقد أن القدس مدينة يهودية، وذلك بفعل الدعاية الإسرائيلية المسنودة من قوى سياسية ودينية متطرفة موالية للصهيونية، فأين دعايتنا التي تعلي من شأن الحقيقة، وتضع القدس في موضعها الصحيح، بوصفها مدينة عربية لمواطنيها الفلسطينيين من المسلمين والمسيحيين؟
وبغض النظر عن كل التساؤلات، فها هي الذكرى الخامسة والستون تحل بين ظهرانينا لتضعنا أمام الحقيقة التي تقول: نكبة فلسطين ليست وراءنا بل إنها ما زالت أمامنا، وهي تواصل ذبحنا كل يوم.
*الحياة الجديدة/ البيرة 2013
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق