قصة: محمود شقير
بلاد وافرة الخضرة تذكره ببلاد أخرى يشتاق إليها فتظل بعيدة، يقف في شرفة
الفندق الهادىء، يجيل النظر في اتساع البحر مرة، وفي الأشجار المتعانقة على التلة
المجاورة مرة أخرى، يستفزه الصمت المطبق، يهبط إلى صالة الفندق: لا أحد سوى
الموظفة العجوز تطل من عينيها طمأنينة بليدة.
يصعد في الدروب الضيقة عبر
الأشجار، ينتهي إلى قمة التلة: عصافير كثيرة تغرد مبتهجة، إنه المساء وهي تعود إلى
أعشاشها تحمل الحب لصغارها، لم يعثر على أحد من المتنزهين في التلة، نمت في صدره
وحشة، تسلى بالنظر إلى البحر، إنه الآن بعيد، وثمة سفينة توغل ببطء عبر الغبش
القاتم في اتجاه عالم فسيح، والبحر يخبىء عنه أسراره، تطاولت وحشته.
هبط التلة مسرعاً، تمشى فوق
المساحة الرملية التي تفصل الفندق عن البحر، تأمل المظلات المتناثرة فوق الرمل:
ليس ثمة إلا صمت المظلات ووشوشة أمواج البحر، إنه المساء، فلا رجال ولا نساء على
الرمل.
تناهت إلى سمعه موسيقى خافتة
تنبعث من الطابق الأرضي المواجه للبحر، غذّ السير إلى مصدر الموسيقى، ثمة مرقص يعج
بالرجال والنساء، بعضهم يتمايلون أزواجاً منسقة في حلبة الرقص، وآخرون اكتظت بهم
الموائد، تأمل سيقان النساء التي لوحتها شمس البحر، وعلى وقع الموسيقى أحسّ أن
تقابل امرأة ورجل في حلبة للرقص، لا يقل سعادة عن العيش في وطن غير مكبل.
اقترب من امرأة وحيدة،
استأذنها في الجلوس، قالت كلاماً لم يفهمه، ورنت إليه مبتسمة، اعتبر ذلك إيذاناً
له بالجلوس، جرّ الكرسي إلى الخلف، وقبل أن يجلس، حلّ على المائدة رجل يحمل كأسين
من البيرة، قدم للمرأة كأساً، شربا نخباً، ثم انهمكا في الحديث.
أعاد الكرسي إلى مكانه، انسل
في صمت، مشى فوق الرمل متثاقلاً، حدق بعيداً، اختفت السفينة المبحرة تماماً،
فأرهقه ذلك، وازداد شعوره بالوحشة، أصغى إلى همهمات البحر، فأدرك أنه وحيد كطفل،
حزين كبلاد أسيرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق