الجمعة، 29 يونيو 2018

مدى



قصة: محمود شقير


هذا المدى الواسع، هذا الهواء الرهيف، هذه البنايات المتلاصقة، هذه الشوارع المتقاطعة، ذلك السطح الوحيد، ذلك الغسيل المذعن للهواء..
      تلك المرأة الوحيدة، تلك البوابة المغلقة، ذلك الطفل الهائم على وجهه في الطرقات..
     تلك المتاجر، التي يدخل إليها ويخرج منها، أناس لا يعرفون بعضهم بعضاً، ذلك الرجل، الواقف فوق سطح إحدى البنايات، يتساءل بأسى: كيف تجتمع كل هذه التفاصيل في مشهد واحد مثير للبكاء، دون أن يحدث زلزال، أو تهب عاصفة، أو يعلن محافظ المدينة الحداد ثلاثة أيام، على أقل تقدير!



السبت، 26 مايو 2018

ذكرى

        


 
تلك المدينة الكبيرة، بشوارعها الراسخة وهوائها البارد الذي يلسع الوجوه، ذلك المطعم الدافئ الذي يقدم أجود أنواع السمك، بفضائه الحميم ونادلاته الجميلات..
         ذلك المقهى الرصين الذي يتجمع فيه العشاق وغير العشاق، لاحتساء قهوة تُغلى في وعاء معدني كبير فوق نيران الحطب الوهاجة..
        ذلك الدرب الضيق في الحي القديم، بأبنيته ذات الطراز المعماري الفريد، وبالعازفين الهواة المنتشرين على جنباته..
        تلك المرأة النحيلة، بشعرها الطويل المنسدل على الكتفين، وبالكوفية التي تحيط بالعنق الرقيق، تأخذني إلى المطعم وإلى المقهى وإلى الدرب الذي يعزف فيه العازفون ألحانهم، ولا تنسى بين الحين والآخر أن تواصل الاعتذار، لأن زوجها لم يتمكن من مرافقتنا، بسبب ذهابه إلى اجتماع طارئ لا يحتمل التأجيل..    
       تلك المرأة الجميلة، واصلت التحدث معي بكل براءة ودون تكلف، كما لو أنني أعرفها منذ سنين.
       عادت بي إلى الفندق ذي الطوابق العشرين، افترقنا عند الباب، ولم ألتق بها مجددا إلا بعد سنتين حينما جاءت إلى شرقنا، مع جثمان زوجها الذي اغتاله الرصاص.
       قدمت لها واجب العزاء، والدموع تسح من عينيها، اللتين رأيت فيهما تلك المدينة الكبيرة، المطعم الدافئ، المقهى الرصين، الحي القديم، الدرب الضيق، العازفين الهواة، وكلامها العذب الذي ما زلت أسمعها تعيده علي كلمة كلمة كلما اقترب المساء.
    

الاثنين، 30 أبريل 2018

النافذة



قصة: محمود شقير

اليوم
الأول من أيام العام الجديد.
       السماء مجللة بالغيوم، والرجل واقف في النافذة بعد ليلة من الأرق، يتأمل عبر فضاء النافذة : شجرة الليمون التي ما زالت غضة الساق، المرأة التي تلم الغسيل عن سطح البيت، خشية من مطر مرتقب، البنت التي تتدثر بمعطف أحمر وهي تتمشى في فناء قريب، منكبة على كتابها المدرسي استعداداً لامتحان منتظر، الجبل المتجهم في الجهة المقابلة دون أن يفصح عن أسباب تجهمه، مبنى الجامعة المحاط بشجر كثيف، البلدة المجاورة التي تعلو بيوتها مئذنة الجامع الوحيد، طرف المستوطنة التي تتمدد على أرض البلدة ذات الجامع الوحيد، المدى الجغرافي الموغل في الاتساع، سلسلة الجبال البعيدة القاتمة، وخلفها المدينة التي عاش فيها الرجل خمس عشرة سنة، وفيها المرأة التي أحبها وتزوجها سراً، دون أن تعلم زوجته الأولى، ثم افترق عنها لأسباب عديدة، وفيها الطفلة التي أنجباها، وبقيت هناك في رعاية أمها التي تزوجت من جديد.
         والرجل يغادر النافذة غير راغب في مزيد من الذكريات،  يجلس في صالة البيت، يشرب قهوته على مهل، يرفع سماعة الهاتف، وينتظر لكي يسمع صوت طفلته قادماً من بعيد.


الخميس، 5 أبريل 2018

أسى

   


 قصة: محمود شقير

  قال وهو يسعل في فضاء غرفته الباردة: لولا أنها تزوجت من صديقي لتزوجتها. قال ذلك بصوتٍ عالٍ لاعتقاده أنه يتحدث إلى عدد من أصدقائه الذين عرفهم طوال سنوات، غير أنه كان يحدث نفسه، إذ لم يعد يزوره أصدقاؤه بعد أن تخلوا عنه واحداً إثر آخر.
       قال: كنا نحبها معاً، ونشتهي دون مواربة جسدها الريان. نتحدث عن كنوز جسدها، كلما خطرت بالبال.
       كانت تغمز لي بعينها كلما رأتني، وتغمز لصديقي بعينها كلما رأته. كان صديقي أبرع مني في اغتنام الفرص. فاتحها بأمر حبه لها، اتفقا على الزواج، فتزوجا وأنجبا عدداً من البنين والبنات.
        في تلك الأثناء تزوجتُ عدة زيجات انتهت كلها بالطلاق لهذا السبب أو ذاك.
        قبل أيام، ذهبت إليها أعرض عليها الزواج بعد ثلاثة أشهر من وفاة زوجها، الذي لم يزهد في صداقتي إلا قبل عام.
       قال: رفضتني لأنني _ كما قالت _ أذكرها بعهد الشباب الذي ولى وغاب.


الأحد، 18 مارس 2018

عيد ميلاد



قصة: محمود شقير

      تصحو المرأة من نومها متأخرة.
      فقد سهرت طوال الليلة الماضية، مع الصديقات والأصدقاء، بمناسبة عيد ميلادها الأربعين.
      تنهض من سريرها، تتجه نحو الصالة وهي تشعر بالغثيان، ولا تروق لها الفوضى التي خلفتها ليلة البارحة، في الصالة التي تفتقر الآن للنظام. كان لا بد من إزاحة الكراسي والكنبايات، لإيجاد حيز معقول للراقصين والراقصات.
      رقصت المرأة باندفاع وسط إعجاب الجميع، ثم انطرحت في فراشها متعبة، بعد أن ودعتهم عند الباب.
       الآن، عليها أن تعيد الكراسي والكنبايات إلى وضعها السابق، وعليها أن تحضر سلة النفايات، لتفريغ المنافض الزجاجية من أعقاب السجاير ومن قشور الفستق، وعليها أن تخفي زجاجات البيرة الفارغة عن أعين الجيران.
       والمرأة الآن، تجلس فوق إحدى الكنبايات، تضع ساقاً على ساق، تضرب بقدمها الترابيزة دون قصد، تسقط من فوقها زجاجة فارغة، تحدث في فضاء الصالة، وهي تنكسر، ضجيجاً لا تحتمله المرأة، ولا تحتمل في الوقت نفسه، التفكير بأن كل ما جرى، الليلة الفائتة، من صخب فتَّان، قد أصبح ملكاً للماضي الذي يوغل كل لحظة في الابتعاد


الأحد، 25 فبراير 2018

السوق



قصة: محمود شقير


       ذهبت وحدها إلى السوق.
       كان السوق غاصاً بالخلق من كل الأشكال.
       ذهب وحده إلى السوق.
       كان السوق خالياً، وليس من أحد سوى حارس عجوز يقف أمام بوابة مبنى مغلق.
       قالت له فيما بعد: انتظرتك عند أول السوق. قال لها: انتظرتك عند آخر السوق. حدقت فيه بنظرة اتهام، حاول إقناعها بأنها هي أساس الخطأ. في تلك اللحظة، مر الحارس العجوز، حدق فيهما لحظة ومضى دون كلام.
       تلمست المرأة ساقها من خدر طارئ، وابتعدت مثل سهم في الظلام.


الأحد، 4 فبراير 2018

السؤال





*قصة: محمود شقير

تلك المرأة ذات القوام الممشوق، في بيتها الريفي الواقع على طرف الشارع الذي يذهب نحو الجنوب، استيقظت من نومها ذات صباح، ذهبت إلى الزريبة لتطمئن على البقرة، قدمت لها العلف وعادت لتوقظ زوجها كي يستعد للذهاب إلى عمله في المصنع الكبير في المدينة المجاورة.
        تلك المرأة المثابرة، أيقظت ولديها وهيأتهما للذهاب إلى المدرسة، ثم راحت تكنس ساحة بيتها وهي تحاذر أن يندلق نهداها من فتحة الفستان.
      تلك المرأة التي عينها مثل فتحة الفنجان، توقفت عن الكنس لحظة، رنت بعينيها إلى الحافلة التي تقل فوج السياح، فيما الحافلة تتوقف لحظة عند المنعطف. وقعت عيناها دون قصد على عيني ذلك الرجل الذي لم يشبع بعد من متعة السفر،  ابتسم لها وابتسمت له دون وجل.
      ذلك الرجل، ما زال يسأل نفسه: ما الذي فعلته المرأة بعد أن انتهت من كنس الساحة؟ هل بقيت واقفة هناك أم اتجهت الى المطبخ أو الى غرفة النوم؟ هل غسلت صحونها في المجلى أم اضطجعت بعض الوقت في فراغ السرير؟  وهل تتذكره مثلما يتذكرها الآن؟
      ويحيره السؤال: هل ما زالت تلك المرأة على قيد الحياة بعد تلك السنوات الطوال؟


الأربعاء، 24 يناير 2018

تمزق





*قصة: محمود شقير

         وحده في البيت، والليل لا يسمح بأي تواصل، والمطر ينقر زجاج النافذة دون انقطاع. وهو وحيد، وأخته التي ماتت البارحة بعد مرض عضال، تنام في قبرها ولا تسمع صوت المطر، وأمه تنام في بيتها المنعزل ، أو ربما هي لا تنام ، ولعلها جالسة في فراشها تبكي ابنتها المتوفاة.

         وأخته الأخرى تنام الآن في بلد بعيد، أو ربما لم يعرف النوم طريقه إلى جفنيها. أخبرها على الهاتف وهو يشرق بدموعه، أن أخته ماتت. بكت الأخت الأخرى وحمل الهاتف إليه صوت البكاء. بكت لأن أختها لم تظفر طوال حياتها بزوج وأطفال.

         وأبوه يلملم عظامه ويصحو على ابنته التي دفنت إلى جواره، يسألها عن الأهل والأحباب، فلا تجيبه لأنها ما زالت تحلم بأنها لم تتحرر بعد من مرضها العضال.

        وهو الآن وحيد، يشفق على والده الذي لا يعرف أن العائلة تمزقت من بعده، ولم يعد أحد فيها يلتفت إلى أحد إلا حينما يحضر الموت. والوالد يلح على ابنته المتوفاة بالسؤال، وهي لا تجيبه لأنها تريد أن تمارس موتها مثلما تشاء.

       والمطر الذي ينقر الزجاج يتوقف بغتة، وهو لم يعد وحيداً في هذا الليل الجائر، فها هو ذا والده، يقترب منه بغتة، يربت على كتفه برفق، ويجلس على الكنبة إلى جواره حتى الصباح .