السبت، 30 ديسمبر 2017

فرص



قصة: محمود شقير

بنات الحي كلهن تقريباً رفضنه، لأنه أطول مما ينبغي، وأكثر نحافة مما ينبغي.
        انزوى في بيته البائس خمس سنوات. ظل خلالها يقرأ التعاويذ والأدعية، ويمارس طقوساً استقاها من كتب وجدها في مكتبة جده الذي مات.
        خرج الى الحي كائناً جديداً. وبنات الحي كلهن تقريباً رفضنه، لأنه أقصر مما ينبغي، وأكثر بدانة مما ينبغي.
        انزوى في بيته هذه المرة عشر سنوات. خرج إلى الحي كائناً مختلفاً.
         يذكر محياه الوسيم بأبطال الحكايات، وتوحي عضلات صدره وذراعيه، وانسجام قده من رأسه حتى قدميه، بأنه واحد من نجوم السينما المشهورين هذه الأيام.
         بنات الحي كلهن تقريباً تهافتن عليه، كل واحدة منهن تتمناه في السر وفي العلن زوجاً أو عشيقاً، فلم يرقن له، لأنه وجدهن عوانس مترهلات.
         انطلق في أرجاء الدنيا وحيداً، يبحث عن امرأة على هواه.
         وبنات الحي ما زلن جالسات على قارعة الطريق، في انتظار فارس أحلامهن الذي غاب.


الأربعاء، 20 ديسمبر 2017

اشتباك



 قصة: محمود شقير

  
الكهل يجلس قرب الشباك في صالة بيته.
       وثمة شمعة مضيئة على المائدة، تفصل بينه وبين بثينة التي تزوجت قبل عام، والكهل يتناول الطعام متلذذاً به، وبابتسامة بثينة التي لا تفارق شفتيها المكتنزتين.
       وبثينة تأكل، على مهل، الطعام الذي أعده لها الكهل، ولا يبدو عليها أنها سعيدة، لأن أحاسيس غامضة تعذبها، ولا تجعلها مستقرة على حال. تبدي للكهل ندمها لأنها تزوجت بمثل هذا الاستعجال، والكهل يحاول طمأنتها قائلاً: هذه هي الحياة.
       بثينة لا تروق لها حكمة الكهل الباهتة، تقول: قل شيئاً غير هذا يا عمي. يقول الكهل مازحاً بخبث مقصود: عمى يعمي عينيك. بثينة تضحك، ويلذ لها أن تلعب بأعصاب الكهل، تقوده من يده، تجلسه على الكنبة، تتكور في حضنه، تداعب شعر شاربيه باصبعها، والكهل يملس على شعرها بحنان.
       تقول إنها الآن تتذكر طفولتها البعيدة، وهي تجلس في حضن أبيها فتشعر بالأمان، والكهل منزعج من هذا الكلام، وبثينة تقول إنها ترغب في الاغتسال.
       الكهل ينهض وهو يحتضنها بين ذراعيه، يفتح الصنبور لكي يملأ حوض الحمام الأبيض الصقيل بالماء. بثينة تخلع الفستان، تتمدد في الحوض، وتهز فخذيها تحت الماء، والكهل يخلع ثيابه، يقتحم سطح الماء، ويقرفص قرب قدميها الصغيرتين مثل قنفذ بلا أشواك.
        وبثينة لا تعيره أدنى اهتمام.


الأربعاء، 6 ديسمبر 2017

فراق



قصة: محمود شقير

مساء أمس، كان آخر لقاء بينهما.
       التقاها أول مرة وهي في الثلاثين. كان لها زوج تحبه، ولها ولد.
        وقد اعتادت أن ترتدي فساتين فضفاضة قابلة للتطاير من حول جسدها مع أول نسمة هواء، تقول إنها لا تحب ارتداء البنطال لأنه، حسب رأيها، يحد من فضاء الجسد. ولم تحبذ وضع الأصباغ على خديها وشفتيها، تقول إن جمالها الطبيعي أبهى.
       التقاها مرة أخرى وهي في الأربعين. كان لها زوج لا تحبه، ولها أربعة أولاد.
       وما زالت ترتدي فساتين فضفاضة وتنانير قصيرة تكشف عن فخذين لهما حضور أخاذ، وتقول متأسية إنها تبحث عن لحظة انسجام واحدة.
       التقاها مرة ثالثة وهي في الخمسين. قالت له إنها انفصلت عن زوجها، وصارت تملأ خديها بالأصباغ، تسرح شعرها كل يوم تسريحة مختلفة، ترتدي بناطيل تنتمي إلى شتى الموضات، ولم تعد السيجارة تفارق شفتيها المصبوغتين بشتى الأصباغ.
        مساء أمس، التقيا ليشربا القهوة في المقهى الواقع في الشارع الفرعي، ولا يقصده سوى الكتاب والرسامين وبعض المتعبين الذين يحبون التحديق في الفراغ. بدت واجمة حينما قال: هل تذكرين لقاءنا الأول؟
     قالت وابتسامة خفيفة تتشكل على ثغرها: أذكره، طبعاً أذكره. قال متأملا في حياد: مرت منذ ذلك اللقاء عشرون سنة. أضاف: يا إلهي، كم كبرنا! اكفهر وجهها وتلاشت ابتسامتها في الحال، قالت وهي تنهض: أنت تبالغ كثيراً، لقاؤنا الأول لم يكن قبل عشرين سنة.
     حملت حقيبة يدها، وغابت في ظلمة الشارع الذي لا حس فيه ولا حياة.