الجمعة، 27 يناير 2017

أرغفة



قصة: محمود شقير 



زنزانة ضيقة، ضوء باهر في السقف، بطانية ممزقة تفوح منها روائح كريهة. منذ أغلقوا عليه الباب الحديدي وهو يجيل النظر فيما حوله بفضول، ويلوب في مساحة مترين مربعين دون أن يهدأ أو يستقر.
       قرب الركن، رغيف محشو ببعض قطع البندورة، يلمس الرغيف في حذر، يختلط سائل البندورة مع لبّ الرغيف: إنها لزوجة تثير الأعصاب. ثمة شخص آخر كان هنا. أين مضوا به؟ ولماذا لم يأكل طعامه؟
       يحاول أن ينام، يؤرقه منظر الرغيف الصامت، والضوء المنبعث من مصباح السقف، يخفي الرغيف تحت السرير. يدفن رأسه تحت البطانية، فلا ينام لأن ثمة رغيفاً محيراً لا يبوح بأي كلام.
       في الصباح، يحضرون له رغيفاً مشابهاً، يحاول أن يقضم من طرفه لقمة، لا يقوى على ابتلاعها. يتقيأها، يضع الرغيف تحت السرير. ثمة الآن رغيفان ورجل وحيد في الزنزانة.
       ثم يأتون، يقتادونه إلى الخارج، والرغيفان يصغيان في ارتياب، ويتشممان مثل أرنبين مذعورين رائحة الخطر من وراء الباب.
       في الصباح التالي. كان ثمة ثلاثة أرغفة وبركة دم على بلاط الزنزانة، ولا أحد فوق السرير.


السبت، 21 يناير 2017

كروم




قصة: محمود شقير 



       ينطلق الفتى في الكروم مثل مهر جموح، يركض، يتسلق الوعر، يتشمم روائح القرنفل والنرجس، يقطف سيقان عباد الشمس والريحان، وكلما فاضت به النشوة مال بعنقه على ورق التفاح والدراق وغاب لحظة عن الدنيا هناك.
       ينطلق الفتى ولا يقر له قرار، تكبر في نفسه اللهفة: لو يستطيع أن يكور هذه الدنيا الفسيحة مثلما يفعل بورقة بيضاء، ثم يخبئها إلى الأبد في قلبه، لعل ما في القلب من أوارٍ يهدأ لحظة أو يعرف معنى السكوت.
       يتوقف الفتى مذهولاً وهو يرى المرأة تحت شجرة الدراق، ترتدي ثوبها المطرز الذي ينساب مثل نهر على رخام الجسد، تحمل في يدها سلة من قش وتقطف ثمر الدراق.
       تجفل المرأة، تنزلق عن غير قصد فوق التراب، ينكشف الجسد البض، تخفيه بسرعة فكأنه برق السماء يلمع بغتة، ثم يأتي أوان الرعود.
       يبتعد الفتى مصعوقاً، ويظل دهراً كاملاً يرزح تحت وطأة الكروم الوفيرة وسلة الدراق والبرق الذي كان بغتة ثم غاب.


الثلاثاء، 17 يناير 2017

النشيد




*قصة: محمود شقير 


يلتقيها صدفة في مطعم المدينة، يهبطان مساء إلى الشاطىء الذهبي، يركضان فوق الرمل مثل طفلين عابثين، يغريها نداء البحر الفسيح، تخلع ملابسها، يتلقفها صدر الموج الرهيف،  تنزلق فوق الماء كأنها سمكة، وتناديه:
-      البحر دافىء.. تعال
يسبحان وقتاً ثم يخرجان من حضن الماء، يستلقيان فوق الرمل، يتوحدان على وشوشات البحر وخيوط القمر الذي من نحاس، ينسى نفسه ويشعر أن العالم بدر مكتمل.
ثم يصحو دون رغبة منه، يتأملها وهي مفرطة في إغفاءة عذبة، يخشى أن توقظها نظراته الجارحة، يتشاغل عنها بالنطر إلى لجة الأضواء المنبعثة من مدينتها التي تنام وادعة على ذراع البحر، تستيقظ في قلبه الفجيعة.
   تنهض متكئة على ذراعها الذي من فضة ورخام، وكأنما شعرت بما يساوره، ترى غلالة حزن على وجهه، تسأله عما يكدره فيقول:
-      إنها المدن الهائمة على وجهها في الظلام.
تنتصب مثل مهرة في عريها الكامل، يتألق جسدها الذي من فضة وحشائش ومرمر ورخام، وتغني: يا شعوب الشرق، ثم تدعوه للغناء، فيغنيان معاً: يا شعوب الشرق، فلا يشبع من الأغنية، ويشعر أنهما ينتميان إلى عائلة واحدة، وهما معاً على الرمل حتى الصباح.


الأحد، 15 يناير 2017

تمرد




*محمود شقير 



تتأمل النساء الحوامل من شباك غرفتها يتهادين في مشيهن مثل الأميرات، ترنو إلى براءة الأطفال يقبضون بأكفهم الصغيرة على أذيال الفساتين التي تنثال على أجساد الأمهات، تنتبه إلى أن أحداً لا يعيرها اهتماماً، تغادر الشباك.
       تتلهى بقراءة قصيدة، صاغها لها حبيب لم يلبث أن فارقها إلى حضن ابنة عمه، منصاعاً إلى سطوة التقاليد والعادات، تمزق القصيدة لأنها لا تشبه طفلاً وسيماً تتمناه كي يرضع من ثديها الطموح، وتعود إلى الشباك. يتطاير ورق القصيدة، يحطّ فوق إسفلت الشارع، فلا يعيره أحد أي انتباه هناك.
       تحدق في السفينة التي تنام على الرف فوق سريرها وقد حطّت مراسيها، ترمي السفينة في غضب من الشباك، لأنها لا تؤمن الآن بالسفن التي ترضى العيش رهينة الصمت والنسيان، تدلق الكتب الوفيرة من فوق الرفوف، تكسر المرآة وزجاج الشباك، تفتح قفص الطيور، تطلق عصافيرها الأثيرة، تفتح صنبور المياه على الآخر في الحمام، تقلب السرير رأساً على عقب، تدير اسطوانة الموسيقى، تطلق العنان لهذر المذياع.
       تقع عيناها على تمثال الرجل البرونزي، تتأمله، ثم حينما تكتشف صمته الأبدي تقذف به من الشباك، يتسلل الماء إلى بلاط الغرفة ثم يستلقي هناك، ترتمي عارية فوق البلاط حيث الماء، وفي الخارج يتمطى العالم على رسله، دون أن يفكر ولو بإطلالة خاطفة من وراء الشباك.


الثلاثاء، 10 يناير 2017

كآبة





*محمود شقير 


تخلع فستانها، فيأتيها جامحاً كالحصان، يمضيان الليل ساهرين، يتسليان أحياناً بتعداد النجوم من نوافذ الصيف المشرعة.
       كان ذلك في الأشهر الأولى، والبيت بلا أولاد، ورغيف الخبز يكفي اثنين: رجلاً وامرأة.
       تخلع فستانها، فيزدريها، ويغط في سبات ثقيل، فالبيت غاص بأولاد يتقلبون في فراشهم، ورغيف الخبز ما عاد يكفي، فقد أصبحوا رجلاً وامرأة وسبعة أولاد.
       تلتجىء إلى المحكمة، فيلتقيها على الباب، هي ببؤسها الذي تغطيه بحجاب، وهو بسحنته التي عبث بها الشقاء أيما عبث.
       يقول أهل المعروف: الصلح سيد الأحكام. يشتعل قلبها شوقاً ورجاء، لكنه يظل مكفهراً حانقاً وتستعطفه: رحمة بأولادك.
       يمزق الحجاب عن وجهها، يصفعها، يسيل الدم من زوايا فمها، وتبكي.
       كان ذلك في صباح خريفي، والريح تعبث بالأوراق المتساقطة وباب المحكمة لم يفتح بعد.




الجمعة، 6 يناير 2017

البحر


قصة: محمود شقير

بلاد وافرة الخضرة تذكره ببلاد أخرى يشتاق إليها فتظل بعيدة، يقف في شرفة الفندق الهادىء، يجيل النظر في اتساع البحر مرة، وفي الأشجار المتعانقة على التلة المجاورة مرة أخرى، يستفزه الصمت المطبق، يهبط إلى صالة الفندق: لا أحد سوى الموظفة العجوز تطل من عينيها طمأنينة بليدة.
       يصعد في الدروب الضيقة عبر الأشجار، ينتهي إلى قمة التلة: عصافير كثيرة تغرد مبتهجة، إنه المساء وهي تعود إلى أعشاشها تحمل الحب لصغارها، لم يعثر على أحد من المتنزهين في التلة، نمت في صدره وحشة، تسلى بالنظر إلى البحر، إنه الآن بعيد، وثمة سفينة توغل ببطء عبر الغبش القاتم في اتجاه عالم فسيح، والبحر يخبىء عنه أسراره، تطاولت وحشته.
       هبط التلة مسرعاً، تمشى فوق المساحة الرملية التي تفصل الفندق عن البحر، تأمل المظلات المتناثرة فوق الرمل: ليس ثمة إلا صمت المظلات ووشوشة أمواج البحر، إنه المساء، فلا رجال ولا نساء على الرمل.
       تناهت إلى سمعه موسيقى خافتة تنبعث من الطابق الأرضي المواجه للبحر، غذّ السير إلى مصدر الموسيقى، ثمة مرقص يعج بالرجال والنساء، بعضهم يتمايلون أزواجاً منسقة في حلبة الرقص، وآخرون اكتظت بهم الموائد، تأمل سيقان النساء التي لوحتها شمس البحر، وعلى وقع الموسيقى أحسّ أن تقابل امرأة ورجل في حلبة للرقص، لا يقل سعادة عن العيش في وطن غير مكبل.
       اقترب من امرأة وحيدة، استأذنها في الجلوس، قالت كلاماً لم يفهمه، ورنت إليه مبتسمة، اعتبر ذلك إيذاناً له بالجلوس، جرّ الكرسي إلى الخلف، وقبل أن يجلس، حلّ على المائدة رجل يحمل كأسين من البيرة، قدم للمرأة كأساً، شربا نخباً، ثم انهمكا في الحديث.

       أعاد الكرسي إلى مكانه، انسل في صمت، مشى فوق الرمل متثاقلاً، حدق بعيداً، اختفت السفينة المبحرة تماماً، فأرهقه ذلك، وازداد شعوره بالوحشة، أصغى إلى همهمات البحر، فأدرك أنه وحيد كطفل، حزين كبلاد أسيرة.

الاثنين، 2 يناير 2017

مهاجر



قصة: محمود شقير 



       المرأة تغني من كوة في الباب: القدس من ذهب، فكأنما يتأكلها الحنين إلى حياة الليل في الخارج، والشرطي الذي اجتذبته موجة الهجرة الأخيرة، يعلن خطوه الثقيل في باحة السجن، يتوقف أمام الزنازين، يراقب من الكوى الضيقة رجالاً يرسفون في قيودهم، ثم يبتعد أمام وطأة عيونهم التي تخترق الكوى، يتمشى في الباحة وهو يؤنب نفسه، ويحلم بأمسية هادئة على بحر بعيد مع امرأة يلتقيها صدفة في الطريق.
       والمرأة تغني من كوة في الباب ثم تصيح: أيها الشرطي المنتصر أعطني سيجارة من فضلك! يناكفها عن غير قصد: اخرسي أيتها الزانية القادمة من وراء البحار.
       المرأة تكف عن الغناء، تشتم أم الشرطي بلغة الإيديش دون اكتراث، ثم تصمت، يزحف الليل بطيئاً، والشرطي ينوء تحت وطأة الوظيفة وعبء الانتصار والعيون التي تخترق الكوى بحثاً عن وطن.