الخميس، 29 ديسمبر 2016

خصب





قصة: محمود شقير


       تعصف الريح، وفي السماء يركض غيم أسود، وعلى الأرض التي تعرّت من كل شيء، لا أثر لمخلوق حي، المرأة جمعت غسيلها قبل أن يجف من على السطح، ثم عادت إلى البيت، تفرده قطعة قطعة قرب المدفأة التي يئز في داخلها اللهب.
       والرجل أغلق الحانوت مبكراً على غير عادته، فقد تخللت مفاصله برودة، واستبدت به رغبة لاحتضان المدفأة. عاد إلى البيت حيث المرأة تفرد الغسيل ويحمّر خداها من وطأة اللهب.
       تعصف الريح والأرض تعرّت، والكائنات أوصدت على أنفسها أبوابها، وتركت الأرض وحيدة في الخارج، عارية كامرأة، تنتظر المطر.


الجمعة، 23 ديسمبر 2016

اعتراف



*محمود شقير 



أنا أحب امرأة صبية، لها أخت متخرجة من معهد علوم الدين، متزوجة من رجل مدمن على الكحول، لهما طفل بريء مثل عصفور الحقول.
       المرأة التي أحبها تحدثني دوماً عن الطفل حتى بتّ أحبه دون أن أراه، والمرأة التي أحبها لا تحدثني عن والد الطفل لأنه مدمن على الكحول.
       والمرأة تحدثني عن زوج أختها الكبرى الذي يعمل دهاناً، وتحدثني عن زوج أختها الصغرى الذي يعمل مديراً لمعهد اللغات.
       الوحيد الذي لا تحدثني عنه ولا أعرفه هو زوج أختها المدمن على الكحول، الذي التقيته قبل ليلتين في البار مع ثلة من الأصحاب، حدثني عن مناكفاته الدائبة مع زوجته المتخرجة من معهد علوم الدين، ثم أفرط في البكاء حينما حدثته عن طفل بريء مثل عصفور الحقول.


الاثنين، 19 ديسمبر 2016

لقاء




قصة: محمود شقير 


يترصدها في الدروب، ينبري لها كالديك، يتراكض من حولها فتعرف أنه يحبها، تعلو خديها حمرة التفاح، تبتسم، فيعرف أنها تحبه. لكن حبهما كان صغيراً، وعذابات العالم كانت أكبر منهما، ولهذا ابتدأت المتاعب.
       بعد أن خفّ هطول المطر، أرسلتها أمها إلى الحانوت، خرجت تجرجر حذاء مهترئاً، انفرط الحذاء في الطريق، انسربت في داخله كتل من الوحل والطين.
       خلعت الحذاء، أخفته في الحقل، مضت حافية، غاصت قدماها في الطين، تلطخ ساقاها وذيل فستانها، لم تشعر بالحرج، لأنها ما زالت صغيرة.
       رآها تغادر الحانوت، تبعها ملهوفاً، فأسرعت الخطى على غير عادتها حينما تراه. قبل أن يدركها، عبرت الحقل وأيقنت أنها ما عادت صغيرة.
       وقف على حافة الحقل وناداها، ظلت جامدة في مكانها لا يستر وجهها غير حمرة الخجل، ناجاها قائلاً: كم أنت جميلة بين الزرع! ارتبكت وقالت: انصرف، قد يرانا الناس. تمادى في التودد وقال: صنوبرة بين الزرع أنت! ازداد ارتباكها وقالت: لا أطيق أن أسمعك! هيا انصرف!
       جرحته الإهانة. فانطلق يعدو كمهر جامح، وحينمنا ابتعد، التقطت حذاءها من بين سيقان الزرع، ومضت حزينة.
       تلك الليلة لم تعرف عيناه النوم، أما هي فقد غسلت قدميها الموحلتين بدموعها.


الجمعة، 16 ديسمبر 2016

مدى


قصة: محمود شقير 

تبهره أمسيات الشتاء، يطير قلبه مع الغيوم وهي تسبح طليقة في مدى كوني فسيح، تتلوى في قلبه القيود، يكتئب، يخطو إلى البار، يشرب خمراً رديئة، تنكسر القيود في مدى البار العابق بالدخان والقهقات، يشعر أنه قريب من لحظة يشتهيها، تساوره الرغبة في الرقص، يرقص، ويخور كالثور.
       يعيدونه إلى المائدة مكرهاً، يحكمون عليه الحصار، فيبكي صارخاً: حتى هنا يا أوباش!
       ينهمك في تعاطي خمرته، يشعر أنه بعيد عن اللحظة التي يشتهيها، ينهض متثاقلاً ويغادر البار.
       تستقبله ريح ماطرة وشارع تلتمع على صفحته أضواء كابية، يمضي على مهل غير عابىء بالريح والمطر، يبصر شرطياً متدثراً بمعطفه تحت إحدى الشرفات. يسترق النظر إلى وجه الشرطي: إنه يعد عليه خطواته. تشتعل في قلبه حالة صحو حارقة، ويغذ الخطى إلى بيته البعيد الغارق في الظلام.


الاثنين، 12 ديسمبر 2016

مطر





*قصة: محمود شقير 



       أمس هطل المطر بعد انقطاع، اغتسلت الأرض، وفي الصباح بدا جسدها بضاً، يتصاعد منه البخار، مثل امرأة فرغت لتوها من الاستحمام.

       وضع يده في يدها وانطلقا يركضان مثل طفلين، ثم سقطا معاً فوق التربة اللدنة، يحرسهما هدوء الطبيعة الفسيح والبخار المتصاعد، تميل به الريح الرخية نحو البيوت القروية على الجبل، حيث النساء اللواتي لم تخطىء حواسهن، وهن يستنشقن الهواء المضمخ بالبخار، ورائحة أجساد بشرية معرّاة.

الجمعة، 9 ديسمبر 2016

كاترجينا




قصة: محمود شقير 


كاترجينا لا تعرف من لغتي الجميلة سوى بعض مفردات سرية، علقت بها مثل جرثومة الوباء من تجار النفط الذين التقوها عن سابق قصد في ساحة المدينة، فدعوها إلى ليلة ليلاء.
       كاترجينا تسير إلى جواري صامتة، نتوقف قرب النهر الذي يدغدغ خاصرة المدينة بجريانه الرشيق الذي لا ينقطع صبح مساء.
       كاترجينا تحدق في ماء النهر وتغني بلغتها: لو أن الماء نفط، أنا أحدق في النهر وأغني: لو أن النفط ماء، فلا تفهمني كاترجينا، ثم تبكي من وجع غامض، وتمضي دموعها – كما اللؤلؤ – بعيداً بعيداً مع الماء.


الثلاثاء، 6 ديسمبر 2016

النكبة ما زالت مستمرة



*محمود شقير

قبل يومين، قامت إحدى زميلات الفيسبوك بمراقبة ما كتبه على صفحاتهم، خلال أربع وعشرين ساعة، 255 فلسطينيًا وفلسطينية، فلم تجد من بينهم سوى ستة أشخاص تذكروا النكبة في ذكراها الخامسة والستين.

وبالطبع، فإن هذا العدد يبدو قليلاً للغاية، ولربما كان ذلك بسبب الوقت المبكر لعملية المراقبة. فالكتابات تكثر في العادة قبل حلول الذكرى بيوم واحد، وتصبح كثيرة جدًا في يوم الذكرى، وأرجو أن تقوم الزميلة نفسها بمراقبة هذه الظاهرة في هذا اليوم، الأربعاء، فإن كان عدد الكتابات قليلاً، فهذا يعني أن ثمة خللاً ما.

ذلك أننا لا نبرع في شيء قدر براعتنا في الكتابة عن المناسبات، ولا نكتفي بالكتابة، بل إننا نتكئ على الخطابة التي يتألق فيها خطباء لا حصر لهم، ونلجأ إلى البيانات السياسية التي تصدرها قوى سياسية وهيئات اجتماعية، حيث تتنوع القوى والهيئات وتتشابه إلى حد كبير مضامين البيانات، ما يجعل الإقبال على قراءة الغالبية العظمى منها محدودًا، وما يجعل الخطب التي تستبد بها الحماسة غير متساوقة مع واقعنا الذي ما زال عاجزًا عن التصدي الناجع للعدوان. 

فالنكبة، الكارثة التي ألحقتها بنا الغزوة الصهيونية ما زالت ماثلة للعيان، وما زالت مستمرة في أشكال شتى وتجليات، وإلا فماذا نسمي هزيمة حزيران 1967 ؟ وماذا نسمي مصادرة الأرض وهجمة الاستيطان؟ وخطط تهويد القدس وأسرلتها؟ وماذا نسمي عمليات المداهمة والقتل والاعتقال واحتجاز ما يزيد عن خمسة آلاف أسيرة وأسير في سجون الاحتلال؟ وماذا نسمي التنكر لحقوق اللاجئين الفلسطينيين في وطنهم والمحاولات الحثيثة لشطب حق العودة الذي نصت عليه الشرائع الدولية؟ 

وأنا لست ضد الاستمرار في تناول مختلف جوانب النكبة خدمة للأجيال الجديدة التي لم تشهد وقوع النكبة أول مرة، لكنها تعاني وستظل تعاني من آثارها إلى حين. إنما الخشية كل الخشية من أن يفقد الكلام قدرته على التأثير حينما يتكرر وتتشابه معانيه. والخشية كل الخشية أن تتحول النكبة إلى مجرد مناسبة نتذكرها مرة في السنة، ونقيم لها المهرجانات وننظم المسيرات ونصدر البيانات ونلقي الخطب، ونملأ مواقع التواصل الاجتماعي بما يروقنا من جمل منتقاة ومن شروحات، ثم نلقي عن كاهلنا العبء الثقيل، ونخلد إلى الراحة لسنة أخرى قادمة تحل فيها الذكرى من جديد، وهكذا دواليك.

فلماذا لا تكون ذكرى النكبة، إلى جانب الاهتمام بما هو إعلامي وتعبوي وسياسي، فرصة للمراجعة ولنقد الذات وللنظر في ما أنجزناه ولم ننجزه حتى الآن؟ ولماذا لا تكون فرصة لوضع الخطط المدروسة والمبادرة إلى إنجازها للرد على استمرار النكبة، وعلى ما تفرزه من تجليات خطيرة وممارسات؟ ولماذا نكتفي بتوجيه الكلام والخطب والقصائد لأنفسنا ولمن حولنا من عرب ومسلمين، ولا نخاطب العالم على نحو شامل ومثابر، حول أبعاد قضيتنا بوصفها واحدة من أهم قضايا الحرية في العصر الحديث؟ لماذا لا نشرح من خلال حملات دعائية منظمة أوضاع أسرانا المهينة في سجون الاحتلال؟ ولماذا لا نوضح المخاطر التي تتهدد القدس على أيدي المحتلين؟ ثمة أعداد كبيرة من شعوب العالم، وبالذات في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية تعتقد أن القدس مدينة يهودية، وذلك بفعل الدعاية الإسرائيلية المسنودة من قوى سياسية ودينية متطرفة موالية للصهيونية، فأين دعايتنا التي تعلي من شأن الحقيقة، وتضع القدس في موضعها الصحيح، بوصفها مدينة عربية لمواطنيها الفلسطينيين من المسلمين والمسيحيين؟

وبغض النظر عن كل التساؤلات، فها هي الذكرى الخامسة والستون تحل بين ظهرانينا لتضعنا أمام الحقيقة التي تقول: نكبة فلسطين ليست وراءنا بل إنها ما زالت أمامنا، وهي تواصل ذبحنا كل يوم.

*الحياة الجديدة/ البيرة 2013







الجمعة، 2 ديسمبر 2016

انسجام



قصة: محمود شقير 


سيد البيت الذي يناقَشُ فيه مصير العالم، بعد أن انتهى هو ومساعدوه من بحث أهم القضايا الساخنة هنا وهناك، غادر مكتبه قبيل منتصف الليل، يبحث في البيت الفسيح عن السيدة الأولى التي لم يرها منذ حلّ المساء.

بحث عنها في قاعة الطعام، حلبة الرقص، صالة السينما، بركة السباحة الشتوية، حمامات البخار والمياه المعدنية، أخيراً عثر عليها في حوض الاستحمام المرصع بالماس، وقد تعرّت وغمرت جسدها إلى أعلى العنق في الحليب المعقم الخالي من الإشعاع النووي طبعاً، طلباً للنوم اللذيذ، وصفاء البشرة أمام أعين الصحافيين وكاميرات التلفاز.

سيد البيت إياه، بعد أن أخبر السيدة الأولى بقرار الحرب في أميركا الوسطى والشرق الأوسط فلم تكترث بتاتاً، روى لها آخر نكتة بذيئة سمعها من أقرب مساعديه، ثم مضى متهدلاً إلى سريره مثل قتيل، فيما السيدة الأولى تملأ البيت بضحك مغناج، كما لو أنه يدغدغ جسدَهَا دون هوادة، دفقُ الحليب.