الأحد، 27 نوفمبر 2016

المرأة والحصار... كتاب "الحصار" لمي الصايغ أنموذجًا


*محمود شقير 


كيف تتصرّف المرأة أثناء الحرب؟ وما هي المهمّات التي يمكنها الاضطلاع بها أثناء الحصار الذي يفرضه الغزاة على المدنيين؟ وكيف تتصرّف المرأة حينما تكون امرأة مبدعة أثناء الحصار؟ تطرح هذه الأسئلة نفسها ونحن نناقش كتاب "الحصار" لمي الصايغ، الذي تفرد فيه مؤلفته مساحة كافية للنساء الفلسطينيات واللبنانيات أثناء تجربة العيش في أتون معركة غير متكافئة ومن أشد المعارك ضراوة. 

ذلك أنّ حصار بيروت، الذي وقع صيف العام 1982 جرّاء العدوان الإسرائيلي على لبنان، لتصفية منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، كان أبشع حصار تعرّض له الشعبان اللبناني والفلسطيني قبل الحصار المفروض على قطاع غزة الآن، فقد دام هذا الحصار كما هو معلوم ما يقارب ثلاثة أشهر، كانت بيروت أثناءها تتعرّض لقصف وحشي من الجو والبحر والبر، وكانت أبسط مستلزمات الحياة من ماء وخبز وكهرباء غير متوافرة إلا بصعوبة، وطال الدمار بيوتًا كثيرة، ما جعل الكثيرين من أهل المدينة مضطرين للنوم في العراء، وما جعل أزمة السكن تتفاقم على نحو غير مسبوق، بسبب نزوح أعداد كبيرة من أهالي الجنوب اللبناني إلى العاصمة، التي اعتقدوا أنها أكثر أمنًا، بعد اجتياح دبابات العدو الإسرائيلي لمدنهم وقراهم، ولمخيمات الفلسطينيين في الجنوب سواء بسواء.



وقد بادر عدد من الكاتبات والكتاب اللبنانيين والفلسطينيين، الذين عاشوا الحصار يومًا بيوم وساعة بساعة، إلى التطرّق لأيام الحصار القاسية، في أعمال أدبية شعرية وقصصية وروائية، وفي مذكّرات ويوميّات وسير ذاتية، نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر: "ذاكرة للنسيان" لمحمود درويش، "ثمانية وثمانون يومًا خلف متاريس بيروت" لمعين بسيسو، "آه يا بيروت" لرشاد أبو شاور، و"الحصار" لمي الصايغ .



وحيث أنّ كتاب مي الصايغ هو المستهدف في هذه المداخلة التي تسعى إلى تبيان دور المرأة بشكل عام والمرأة المبدعة بشكل خاص أثناء الحصار، فإنّ مجرّد الحديث عن حصار بيروت وعن الكتب التي تناولت هذا الحصار، لا يمكن إلا أن يغري باستحضار كتاب محمود درويش إلى واجهة الكلام، وذلك لأنّ كلا الكتابين، كتاب درويش وكتاب الصايغ، ينهل من معين تجربة عامّة واحدة، رغم أنّ كلاً منهما يستوحي تجربته الخاصة في تلقّي الحصار، وفي تأمّل ما يتركه في النفس من انفعالات وتصوّرات، وما يستتبع ذلك من تداعيات ومقارنات واستذكار لتجارب سابقة على الصعيد الشخصي وعلى الصعيد العام. 



ولعلّ ما يغري بالتوقف عند كتاب درويش وأنا أتحدّث عن كتاب مي الصايغ، ليس الرغبة في المقارنة، وإنما تفسير بعض الجوانب في كتاب الصايغ في ضوء كتاب درويش، خصوصًا وأنّ كتاب "ذاكرة للنسيان" أسبق في الظهور إلى حيّز النشر من كتاب "الحصار" بسنتين تقريبًا. فقد سبق لدرويش أن أصدر كتابه على شكل نص طويل في العدد المزدوج 21 ، 22 من مجلة الكرمل العام 1986 ثم ما لبث أن أصدر هذا النص في كتاب العام 1987 بعد أن أجرى تعديلاً على العنوان الفرعي للنص، ففي حين كان عنوان النص: ذاكرة للنسيان/ المكان آب، الزمان بيروت، فقد أصبح عنوان الكتاب على النحو التالي: ذاكرة للنسيان/ المكان بيروت، الزمان آب. 



وقد يصحّ التساؤل في هذه الحالة: هل تأثّرت مي الصايغ بكتاب محمود درويش الذي كان أسبق من كتابها في تناول حصار بيروت؟ ومنذ البداية أشير إلى أنّ تأثّر كاتب بكاتب آخر أمر مشروع ما دام غير واقعٍ في باب التقليد. وما دام لمي الصايغ أسلوبها الخاصّ الذي يفترق عن أسلوب محمود درويش، فلا غضاضة عليها إنْ تأثّرت بالكتاب لجهة تحفيزها على رصد تجربتها الخاصة أثناء الحصار. 



ففي حين يستعين محمود درويش بتقينات الكتابة الروائية على نحو متقن، لكي يقدّم كتابه في قالب سردي رصين، وفي حين يستخدم أجزاء من سيرته الذاتية وبالذات قصة حبّه التي لم تكتمل ولا يمكنها أن تكتمل لفتاة يهودية تعرّف عليها في حيفا قبل ثلاث عشرة سنة من الحصار، لإضفاء حيوية على السرد ولتجنيب نصّه الجفاف المتوقّع من مجرّد الاكتفاء بسرد الوقائع الخارجية التي يمكن العثور عليها في الوثائق وفي المصادر الإعلامية المختلفة، فإنّ مي الصايغ أيضًا لا تكتفي بسرد الوقائع الخارجية في كتابها، وهي لا تلبث بين الحين والآخر أن تتذكّر حياتها الخاصّة مع أمها وأهلها في غزة، إبّان الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة العام 1956 ، وهي تتذكّر بين الحين والآخر أبناءها الذين يعيشون في الخارج بسبب الدراسة في الجامعات، وتتحدّث عنهم بشكل حميم. 



في كتاب "ذاكرة للنسيان"، نقرأ سيرة يوم في شهر آب من العام 1982 ، ونرى رأي العين فداحة الآثار النفسية الناتجة عن القصف الإسرائيلي لبيروت طوال ذلك اليوم، وانعكاس هذا القصف على أمزجة الناس وتصرفاتهم ورغباتهم وأهوائهم. ولا يقف محمود درويش في كتابه عند حدود هذا اليوم بل إنه يحلّق في اتجاهات شتى، مضفيًا على نصه أبعادًا جمالية وفكرية تجعله كتابًا أدبيًا متعدّد المستويات، ومن أجل ذلك فقد لجأ إلى الحلم، التذكّر، تداخل الأزمنة، استحضار الذكريات، والتناصّ باستخدام مقاطع من التوراة والإنجيل ومن كتابات ابن الأثير، ابن كثير، أسامة بن منقذ، وسيرفانتس. 



وأثناء ذلك، اتخذ السرد لدى محمود درويش مستويات متعدّدة تبعًا للحالة الموصوفة ولما يلزمها من صياغات لغوية. مرّة تكون اللغة بسيطة مباشرة تعبّر عن وقائع عادية، ومرّة أخرى تكون اللغة شعرية متدفّقة حالمة مكتنزة بجماليات الصياغة الأدبية التي تقترب من تخوم الشعر. وحينما يحتاج درويش إلى تقديم وجهة نظر سياسية فيما يحدث، أو حينما يرغب في تقديم مادة سياسية، فإنّ لغة الشعر تختفي أو تكاد، لكي نظفر بمادة سياسية واضحة المرامي والغايات.



إنّ كتاب "ذاكرة للنسيان" بما اشتمل عليه من تقنيات ومن تعدّد في مستويات السرد، ومن تكثيف حينًا وإسهاب حينًا آخر، ومن طرح لقضايا سياسية وأدبية ووجودية وإنسانية، ومن مقاطع شعرية من قصائد تعتمل في نفس صاحبها، وستظهر في وقت لاحق على شكل قصائد مكتملة، يصدق عليه وصف: النصّ المفتوح الذي يستوعب عددًا من الأجناس الأدبية، ومن بينها جنس السيرة الذاتية المتماهي في صياغته الفنية مع السرد الروائي، وهو الأمر الذي أكسب كتاب محمود درويش وما زال يكسبه قيمة أدبية راقية. 



في كتاب "الحصار" تستعين مي الصايغ بشكل اليوميات للتعبير عن مشاهداتها، وعن الدور الذي اضطلعت به أثناء الحصار هي ونساء أخريات. ومع ذلك، فإنّ الكتاب يفيض عن شكل اليوميات ويتجاوز محدودية هذا الشكل الكتابي، بما اشتمل عليه من وصف وتأملات ومن استخدام للتقطيع وتقديم المشاهد المتتالية، والاستعانة بالشعر لتعزيز بعض المواقف والحالات، فلغة الكاتبة تصبح خبرية تقريرية لدى نقل الأحداث اليومية أثناء العدوان، وهي لغة شعريّة جميلة لدى التعبير عن المشاعر أو التأمل في أحوال المدينة وأحوال الناس تحت الحصار



وهي تدخل بعض جوانب من سيرتها الذاتية في تفاصيل الكتاب، ما أكسبه مزيدًا من الصدقيّة والجاذبيّة والإقناع، إذ تتحدّث عن أبنائها وتبدي شوقها إليهم، لكنّها تشعر بشيء من الارتياح لأنهم موجودون خارج جحيم الحصار بمحض الصدفة. وتتحدّث عن والدها ووالدتها على نحو يخفّف من وطأة الرصد التقريري للوقائع الخارجية. كما تتحدّث عن زوجها بين الحين والآخر بطريقة ذكيّة، تسمّيه مرّة: أبو حاتم، ومرّة أخرى: محمد، ولا تشير مباشرة إلى أنه زوجها، غير أنّ السياق السردي يدلّ على ذلك. وهي بتعاملها مع شخصية أبي حاتم على هذا النحو، بدت كما لو أنها تسند لهذه الشخصية مهمّة الضمير اليقظ، الذي يظهر في اللحظة الفاصلة ليقدّم نصيحة أو رأيًا سياسيًا رصينًا أو نبوءة صادقة الخ... علاوة على ما في هذا الموقف من احترام للرجل الذي يصمد في الشدائد، ويظلّ محتفظًا باتزانه وبعدم فقدانه للبوصلة في أصعب الأوقات.



وفي الكتاب، إبرازٌ لدور الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، ولدور المرأة الفلسطينية واللبنانية أثناء الحصار، حيث الاهتمام اليومي بمساعدة الجرحى وتقديم التموين والإعتناء بنظافة الأمكنة، وإلى جانب هذه المهامّ الإنسانية والنضالية، فثمة حرص من الكاتبة على حضور الاجتماعات السياسية والتنظيمية، وعلى إرسال الرسائل إلى منظّمات نسوية وإلى جهات أخرى في العالم لحثّها على التضامن مع بيروت المحاصرة ومع شعبها الصامد تحت الحصار.



وفي الكتاب، إبرازٌ لموقف الكاتبة نفسها من الأطفال وحرصها عليهم وتعاطفها معهم، وكذلك إبراز لمواقف نساء أخريات تجاه أطفالهن وتجاه الأطفال الآخرين تحت القصف وفي المستشفيات الخ... وقد يصحّ القول إنّ الكاتبة أكثرت من رصد الوقائع الخارجية التي أثقلت على القيمة الأدبية لكتابها، ويبدو أنّ ما دفعها إلى الإكثار من هذه الوقائع، رغبتها في توثيق الجرائم التي ارتكبها المعتدون الصهاينة ضد الشعبين اللبناني والفلسطيني جرّاء عدوانهم على لبنان وحصارهم لعاصمته بيروت.



وفي كتابها، تبدو مي الصايغ ملتزمة حتى النهاية بأفكارها الوطنية التقدمية وبطريقة صياغة هذه الأفكار ضمن منظور الواقعية الاشتراكية وتجلياتها في الأدب كما وصلت إلينا أو كما فهمناها أوائل ستينات وسبعينات القرن العشرين. فالكتاب ينتهي نهاية فيها تفاؤل وتمجيد للمقاومة وللفدائيين ولبيروت، وهي تطرح وجهة نظرها السياسية بصراحة ضد التسوية وضد الخروج من بيروت حينما كان موضوع الخروج منها يناقش في دوائر ضيقة لدى القيادة الفلسطينية.

وهي تنهي كتابها بقصيدة طويلة عنوانها "الرحيل" تظهر فيها نزعة التفاؤل على نحو مؤكّد، وتختتمها وتختتم الكتاب على النحو التالي:

والآن

وأنت مالك التراب والهواء

وأنت أيها المستيقظ الوحيد من العراء

تدق أول المدنْ

وترفع الزمن

على هياكل الأحباب والسفنْ 

بيروت فيكَ 

تهزمُ الزمنْ



ولعلّ هذه النزعة الانتصارية المتفائلة تغرينا بالنظر إلى نهاية كتاب "ذاكرة للنسيان"، حيث يبدو الفارق بين نظرة كلّ من درويش والصايغ إلى الواقع وإلى طريقة تجسيده في الأدب، فقد ثابر محمود درويش في مطلع حياته الأدبية على كتابة قصائد يتبدّى فيها التزامه بالواقعية الاشتراكية وبما تتطلبه من تفاؤل وتبشير بانتصار القوى الصاعدة على قوى التخلف والهيمنة والعدوان والاستغلال، ثم ما لبث أن تخلّى عن هذا الالتزام، أو عن هذا الشكل المتزمّت من الالتزام، لقناعته بأنه يؤطّر الأدب ضمن مقولات فكرية وسياسية تشكّل قيدًا على الأدب نفسه وعلى جمالياته، وبدلاً من ذلك راح يحبذ الذهاب بعيدًا نحو الولاء لإنسانية نصّه الأدبي الذي لا يتخلى عن الفكرة وإنما يسمو بها، ما يهبها انتشارًا واسعًا وديمومة أكيدة، بحيث لا يظلّ النصّ الأدبي سواء أكان نثرًا أم شعرًا أسير اللحظة الراهنة، ولا رهينة لمفاهيم نظرية قلّلتْ من رحابة الواقعية ومن قدرتها على الاستفادة من مدارس أدبية أخرى، وعلى استيعاب الحياة بكلّ ما فيها من تقلّبات وأهواء وما فيها من هزائم وانتصارات. 

لذلك، لا غرابة في أن ينتهي كتاب "ذاكرة للنسيان" بذلك النوع من التشاؤم الذي يحرّض على طرح الأسئلة، حيث التناصّ مع التراث ممثّلاً في سفينة نوح التي تقوم برحلة محكوم عليها بأن تنتهي إلى يقين يبشّر بيابسة ترسو عندها السفينة، في حين أنّ نهاية كتاب درويش لا تبشّر بأيّ يقين: "لا أحب البحر، لا أريد البحر، لأنني لا أرى ساحلاً ولا حمامة. لا أرى في البحر غير البحر، لا أرى ساحلاً. لا أرى حمامة". 

هنا، يتخذ محمود درويش من الواقعة المتمثّلة في خروج قادة منظمة التحرير الفلسطينية ومقاتليها من بيروت على متن السفن عبر البحر، متّكأ لتصعيد نصّه الأدبي إلى أفق أشمل، لنصبح أمام مسألة وجودية ترفض الأجوبة اليقينية، وتأخذنا إلى فضاء الرحلة الإنسانية الباحثة عن المعرفة عبرَ طرْحِ المزيد من الأسئلة. 

لهذا يبدو تشاؤم درويش في نهاية كتابه هذا، نوعًا من التعالي على الراهن المؤقت وما يفضي إليه من أفق محدود، لتحقيق رسالة الأدب في طرح الأسئلة المحرّضة على البحث عن الحقيقة، وليس الركون إلى تقديم الأجوبة. ولهذا كان سؤال درويش الكبير بعد بضع سنوات من كتابه هذا: لماذا تركت الحصان وحيدًا؟ مفتتحًا بذلك مرحلة كبرى من مراحل تطوّره الشعري التي عزّزت الحضور الكوني للقضية الفلسطينية. 

وبغضّ النظر عن الكلام على نهاية كلّ من الكتابين، وعن الفرق بينهما المتأسّس على نظرتين مختلفتين، وإنْ كانت كلّ واحدة من النظرتين تسعى بطريقتها الخاصة إلى خدمة القضية الفلسطينية، تظلّ لكتاب مي الصايغ أبعاده المؤثّرة. فهي وإنْ قيّدت كتابها برصد الكثير من الوقائع الخارجية، فإنّ توثيق هذه الوقائع بسبب ما فيها من إدانة للغزو الإسرائيلي البربري للبنان، أمرٌ جدير بأن تطّلع عليه الأجيال القادمة، وبأن يظلّ شهادة دامغة على عنصرية الغزاة الإسرائيليين ومعاداتهم للسلام العادل، ولكلّ ما هو طبيعي ومنطقي وإنساني في القضية الفلسطينية. 

والكتاب إلى ذلك لم يكن مجرّد رصد للوقائع الخارجية، ففيه تأمّلات في الموت وفي الحياة، وفيه كذلك تجليات للنص المفتوح الذي يعتمد على أكثر من جنس أدبي، وفيه لغة جميلة ومشاهد حميمة، مكتوبة بأسلوب يؤكّد قدرة الشاعرة مي الصايغ على اختزان أدقّ التفاصيل أثناء معاناتها اليومية من الحصار، ثم لا تلبث هذه التفاصيل أن تظهر على شكل نثر أدبي جميل.

* نشرت هذه المقالة في مجلة "أوراق فلسطينية"/ رام الله_فلسطين/ العدد السادس والسابع/ ربيع وصيف 2014 



الخميس، 24 نوفمبر 2016

أم


*محمود شقير 

حينما يفيض قلبه أسى، ويعلق به وحل الطرقات، يهرع إليها مثل طفل معذب، تهدهده وتقص عليه حكايات جمعتها من سفوح الجبال البعيدة، يغفو على وركها البض، وفي الصباح يصحو على عالم تتصاعد منه أبخرة الخبز والقهوة الساخنة التي تفوح من يدها الصغيرة وقد بللها ندى الأيام.

ويهتف: يا لها من أم عظيمة، تلك المرأة القلقة التي تصغره بخمس عشرة سنة.



الأربعاء، 23 نوفمبر 2016

القدس في أدب الطفل الفلسطيني



*محمود شقير



لا تظهر القدس إلا على نحو محدود في أدب الطفل الفلسطيني. 

لهذا الأمر علاقة بالمكان وبالدور الممنوح للمكان في نصوصنا الأدبية المكرسة للأطفال. فقد لاحظت من تتبعي لعدد غير قليل من كتب الأطفال الصادرة في فلسطين، التي ألفتها كاتبات وكتاب فلسطينيون، أن المكان لا يحظى إلا بأهمية ثانوية في الغالبية العظمى من هذه الكتب، فهو لا يعدو كونه الحيز الذي تجري فيه الأحداث، والتركيز لا ينصب على المكان، وإنما على القيم التربوية والسلوكية والوطنية والاجتماعية التي يرغب المؤلفون في إيصالها إلى الأطفال.

ولاحظت أن قلة من المدن الفلسطينية قد ظهرت في هذ الكتب مثل رام الله، نابلس، بيت لحم، علاوة على القدس. وحينما يتطرق الكتاب إلى المأساة الفلسطينية، فإن أذهانهم لا تنصرف إلى مدينة محددة في الغالب، وإنما إلى البلاد بشكل عام، إلى فلسطين السليبة.

والمكان في كتبنا يتصف على الأغلب بصفة الإبهام لا التحديد الدقيق، قد يكون المكان مدينة دون ذكر اسمها، أو قرية دون ذكر اسمها كذلك. وقد يكون المكان هو: المخيم، الغابة، الصحراء، الحقل، البستان، الحاكورة، شاطئ البحر، البحيرة، السماء، القصر، البيت، والحديقة. وهنالك أمكنة متخيلة في كتبنا: مملكة برهانستان، بلاد الفرح، بحيرة مرحبا، وجبل الشرور.

إن عدم ظهور القدس على النحو المطلوب في كتبنا، له علاقة أكيدة بعدم الانتباه الكافي للمكان ولجمالياته، وللخطر الذي يتهدد المكان، وهو خطر جدي في حالة القدس التي تتعرض للتهويد كل صباح وكل مساء. ومن هنا يصبح من الضروري إيلاؤها اهتماماً خاصاً في أدبنا المكتوب للأطفال وللكبار سواء بسواء. 

تظهر القدس في كتاب "فلسطيني على الطريق/ من الناصرة إلى بيت لحم" لسلمان ناطور، وهو كتاب مكرس لتعريف الفتيات والفتيان بالمكان أو بالقارة الصغيرة التي اسمها فلسطين، وهو كتاب وصفه د. ابراهيم أبو لغد بأنه "رحلة للتعرف على بعض معالم فلسطين، ورحلة من أجل محبتها". وتظهر القدس بشكل جيد في ثنايا الكتاب، حيث نقرأ لمحة مكثفة عن تاريخ المدينة وما تعرضت له من غزوات عبر تاريخها الطويل، ونتعرف إلى أسمائها التي أطلقت عليها، وإلى أبوابها ومقدساتها الإسلامية والمسيحية، وبعض معالمها الأخرى.

وتظهر القدس في كتاب "من القدس تبدأ الحكاية" لسونيا نمر. في هذا الكتاب نرى بعض معالم القدس داخل البلدة القديمة وبعض عادات أهلها، ونتجول في أسواقها ونتعرف إلى بعض الشخصيات الثقافية والاجتماعية فيها، وإلى بعض مظاهر التعددية التي تشتمل عليها المدينة، وكذلك إلى معاناة أهلها من ممارسات الاحتلال الإسرائيلي.

تظهر القدس أيضاً في رواية "عش الدبابير" لجميل السلحوت، حيث يقوم الكاتب بوصف شوارع المدينة وأسواقها وأزقتها بطريقة تؤكد على طابعها العربي الإسلامي، وتحفظ الذاكرة الفلسطينية التي تسعى للحفاظ على عروبة المدينة وحمايتها من خطر التهويد.

تظهر القدس كذلك في نص مسرحي هو "السيف والقلم" كتبه وليد أبو بكر للفتيات والفتيان، حيث نرى الفارس المثقف أسامة بن منقذ وهو يغتنم الهدنة المبرمة مع الفرنجة ليزور القدس وهي تحت حكمهم، ويصلي في مسجدها الأقصى، ويكون همه منصباً على تحرير الوطن الكبير الذي هو وطنه.

وتظهر القدس في المجموعة القصصية "شارع صلاح الدين" التي كتبها خليل أبو عرفة للأطفال، حيث نرى التلاميذ الذين يقومون برحلة مدرسية فوق سور المدينة، ومن هناك يجري التعرف على أماكن داخل السور وخارجه، ومن هذه الأماكن: شارع صلاح الدين الذي سمي على اسم محرر القدس من الفرنجة "قبل ما يزيد عن ثمانمائة عام". وفي القصة وصف لحجارة السور ولأبوابه، وتذكّر لمن بنوا السور ودافعوا عن المدينة. 

وأنوه إلى أن كاتب هذه السطور تطرق للقدس في عدد من كتبه المكرسة للأطفال وللفتيات والفتيان، وقد ساعدته على ذلك إقامته في القدس، وإدراكه أهمية المدينة وقيمتها الحضارية قديماً وحديثاً، وإدراكه أيضاً ما يتهددها من خطر يبيته لها المحتلون الإسرائيليون، ومن بين هذه الكتب: "كوكب بعيد لأختي الملكة، "أنا وجمانة"، "كلب أبيض ذو بقعة سوداء"، و "أحلام الفتى النحيل".



إن الاهتمام بالقدس باعتبارها من أهم المدن الفلسطينية، وباعتبارها مكاناً فلسطينياً مهدداً بالتهويد، ما زال ضعيفاً في أدبنا المكتوب للأطفال، ما يعني ضرورة بذل جهود أكبر لتعزيز حضور المدينة المقدسة التي ينبغي الاحتفاء بها دوماً، وللتأكيد على مكانتها في قلوب الملايين من الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمسيحيين.

الأحد، 20 نوفمبر 2016

نحن والعقلانية



*محمود شقير 


تبدو العقلانية غائبة في الكثير من مناحي حياتنا المعاصرة، ويبدو الكثير من مناحي هذه الحياة مفتقرا الى العقلانية، متناقضا معها على نحو صارخ وعجيب.


فمن يدقق في ممارسات الكثير من الأجهزة الرسمية العربية، هذه الأيام، بدءا من مؤسسات الحكم وانتهاء بأجهزة الإعلام سيجد انه أمام فيض من الكلام، وأمام ركام من الأفعال التي لا تحترم العقل، ولا تقيم له أي اعتبار، بل إنها تغيبه على نحو مقصود في أغلب الأحيان.


فإذا أردنا الوقوف عند بعض التفاصيل الحسية، فيكفي أن نشير الى غياب المعايير الدقيقة في حياتنا السياسية، بحيث تختلط الأوراق فلا يعود الناس قادرين على التمييز بين هزائمنا وانتصاراتنا، لان لدينا كما يبدو قدرات لغوية، بوسعها أن تقلب الهزيمة نصرا، وبوسعها أن تحمل الناس على أجنحة اللغة المهومة، التي لا تجد لها سندا في الواقع، ولا حجة في ثناياه، ما يسهم في تغييب العقل، وفي الاستهانة بالتحليل العلمي المستند الى الوقائع، ويجعلنا نبدو كمن لا يفهم دروس التاريخ، ولا يستوعب ما فيها من عظات وعبر، ويجعلنا كذلك، ندخل كل تجربة من نقطة الصفر دون غيرها، ثم نكرر الأخطاء نفسها، ونخرج بالاستنتاجات نفسها، ونظل ندور وندور وكأننا يا بدر لا رحنا ولا جينا.


إن مواقفنا المتشابهة من كل الهزائم، التي مرت بنا، ابتداء من نكسة حزيران وانتهاء بحرب الخليج الأخيرة، لا تعني سوى إحلال الرغبات الذاتية بديلا عن الواقع الموضوعي، وإعلاء منطق التبرير على حساب النقد الهادف، والمراجعة المنهجية الدقيقة.

وإذا كانت العقلانية ليست وصفة جاهزة يمكن العثور عليها دونما جهد أو اجتهاد، فهي كذلك ليست أمرا عسير المنال، إذا أردنا التعاطي معها بصدق وإخلاص للخروج مما نحن فيه من مأزق واحتقانات. وإذا كانت الديمقراطية السياسية هي المناخ الصحيح لانتشار العقلانية بين ظهرانينا، والمسؤولية في هذا الشأن تقع أساسا على عاتق الأنظمة والحكومات، فان أفضل المواقع التي يمكن للعقلانية أن تنطلق منها هي الجامعات، وأجهزة الإعلام المختلفة من محطات تلفزة ودوريات وصحف. كما أن أحزاب المعارضة على اختلاف منابعها الدينية والقومية واليسارية تتحمل بدورها مسؤولية مؤكدة تجاه تعميم العقلانية في صفوف أعضائها وفي أوساط الناس، وذلك بالكف عن استخدام الصيغ الجاهزة، وإعطاء العقل فرصته المشروعة في الشك والمحاكمة والتمحيص والانتقاء، بحثا عن الحقيقة.

وان الكتاب والأدباء الذين يرصدون حركة الواقع العربي، فلا يرون على السطح إلا ما يبعث على التشاؤم والانزعاج، مدعوون بدورهم الى ايلاء الجانب التنويري في كتاباتهم الإبداعية حصة ما، وبغير ذلك سنظل عرضة للمزيد من الهزائم والإخفاقات، وستظل العقلانية –مع الأسف الشديد- غائبة عنا، هي في واد ونحن في واد.
______



*صوت الوطن 15/2-15/3/1993/ العدد 42 السنة الرابعة









السبت، 19 نوفمبر 2016

حوار مع محمود شقير







أجرى الحوار: السيد حسين
س 1 / الروائي والأديب محمود شقير ماذا عن بداية الرحلة الأدبية. كيف كانت فترة التكوين وتأثيرها فى تكوين وعى الكاتب لديكم؟
ج 1 / كانت البداية في مجلة "الأفق الجديد" المقدسية. وكان لتلك المجلة فضل كبير علي. نشرت على صفحاتها أولى قصصي في العام 1962، وهي التي قدمتني إلى القراء وإلى النقاد. وكنت نشرت فيها معظم قصص مجموعتي الأولى "خبز الآخرين" ، واستمر ذلك إلى أن توقفت المجلة عن الصدور لأسباب مالية في العام 1966 .

س 2 / كيف ترى وتقيم المشهد الثقافي الفلسطيني حاليا ؟
ج 2 / مشهد ثقافي متحفّز لمزيد من الانتشار والتجاوز. وثمة نتاجات أدبية لافتة في القصة والرواية والشعر وفي النقد الأدبي والدراسات الثقافية، وكذلك في الفن التشكيلي والمسرح والسينما. ربما كان المسرح يشهد تراجعًا إذا ما قورن بعهده الذهبي في ثمانينيات القرن العشرين. مع ذلك، ثمة أزمات وتعقيدات سببها الاحتلال الإسرائيلي وما يفرضه من حصار، وسببها كذلك ضعف الإقبال على قراءة الكتب الناتج عن عوامل شتى، والحاجة إلى مأسسة النشاط الثقافي ودعمه والاهتمام بالكتاب والفنانين وتوفير فرص كافية لديهم للإبداع. فالركض اليومي وراء رغيف الخبز يلتهم وقت الغالبية العظمى من المبدعين.

س 3 / حدثنا عن روايتك " مديح لنساء العائلة" ؟ هناك من يرى تناقضا ما بين عنوان الرواية وغلافها؟
ج 3 / لا أوافق على ذلك. ففي الرواية دفاع عن النساء، وفيها تعبير عن همومهن وعن ظلم المجتمع الذكوري لهن. ولا أعتقد أن وصف بعض سلبيات النساء يعتبر ذمًّا لهن، فالرواية تتعاطى مع نساء من لحم ودم، وليس مع أيقونات وتماثيل.

س 4 / القارئ لرواية " مديح لنساء العائلة " يجد بها مساحات كبيرة من الوثائق ومرجعيات دينية ومسيحية وأحياناً يهودية" فهل تعد الرواية رواية تاريخية؟
ج 4 / ليست رواية تاريخية، ولم أكن بصدد التأريخ لمرحلة من حياة الشعب الفلسطيني. فالرواية تتحدث في الأساس عن الهموم الشخصية لنساء ورجال عاشوا في مرحلة تاريخية معينة، هي الفترة من بدايات الحرب العالمية الثانية إلى أوائل الثمانينيات من القرن العشرين. كانت الإشارة إلى بعض الوقائع التاريخية مجرد خلفية لموضعة شخوص الرواية داخلها.

س 5 / هل كنت تتوقع للرواية الوصول للقائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية؟ 
ج 5 / بعد ظهورها في القائمة الطويلة ازدادت التوقعات لدي بوصولها للقائمة القصيرة، وقد صدقت توقعاتي. وكنت مسرورًا لذلك.

س 6 / هل أنت راض عن ردود الأفعال عن نتائج الجائزة؟
ج 6 / تتنوع ردود الأفعال ما بين متحمّس للنتائج وما بين منتقد لها، وهذا أمر طبيعي يحدث دومًا، وفيه تعبير عن حراك يمكن اعتباره من ضرورات الحياة الثقافية.

س 7 / ماذا أضاف لك وصول الرواية للقائمة القصيرة ؟ 
ج 7 / أضاف لي مزيدًا من الأعباء على صعيد النشاط الثقافي: حوارات عديدة في المجلات والصحف وعلى شاشة التلفاز، ندوات في المراكز الثقافية حول مديح لنساء العائلة، وحول الجائزة، وإحساس أكبر بالمسؤولية تجاه روايتي القادمة. 

س 8 / لقيت روايتك " مديح لنساء العائلة" حظوة كبيرة لدي أصناف مختلفة من القراء في مختلف أنحاء الوطن العربي. هل فاجأك ذلك الحضور للرواية ؟
ج 8 / أفرحني ذلك. ففي نهاية المطاف يرغب الكاتب في أن يرى كتابه منتشرًا على نطاق واسع، لعله يساعد على صياغة وجدان الأجيال الجديدة، وبما يسهم في خدمة شعوبنا العربية في تطلعها إلى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية والأمن والأمان.

س 9 / أحداث الرواية غير المتوقعة وتسلسلها المرن انقذاها من عنصر التكرار والرتابة. هل فطرة الابداع والموهبة وحدها القادرة على ذلك أم تراكمات خبرة الكاتب تساهم في هذا الأمر؟
ج9 / تتضافر مجموعة عوامل من أجل تجنب التكرار والرتابة، ومن أجل الوصول إلى صياغة فنية ممتعة ومقنعة. لتراكم الخبرة دور، وللجلد والمثابرة على الكتابة دور، ولنصائح الصديقات والأصدقاء الذي قرأوا الرواية وهي بعد مخطوطة دور.

س 10 / في الرواية صراع بين الروح والعاطفة وترصد قضايا ومفاهيم عديدة عن الهوية والنضال والجنس والإرهاب وغيرها.. هل هو اختيار مقصود؟
ج10 / ليست المسألة في ما إذا كان هذا اختيارًا مقصودًا أم غير مقصود. المسألة تتعلق بالمنطق الداخلي للرواية، وسعيها لكي تعبر عن هموم الشعب الفلسطيني عبر رصد المسيرة الطويلة لإحدى العائلات المنبثقة من أوساط هذا الشعب، على النحو الذي يهب الرواية جدارتها وقابليتها لأن تقرأ وتؤثر في القراء.

س11 / شخصيات هذه الرواية: " محمد الأصغر ، فليحان، جيزيل "البرازيلية"، منان عبداللات،" وغيرها, كم اقتربت من الحقيقة وشابهت شخصيات حقيقيةً؟
ج11 / هي في الأساس شخصيات تعبر عن مرحلتها التي عاشت في خضّمها، وعن النزوع إلى تخطي المرحلة والتبشير بحلم جديد. وهي شخصيات فنية مستمدة من واقع أعرفه، وثمة بعض عناصر واقعية في كل شخصية من هذه الشخصيات إلى جانب ما هو متخيّل، وهذا المتخيل ليس قليلاً على أية حال.

س 12 / الرواية تركز على دور المرأة المهمش وبعض التحولات الإجتماعية المختلفة وهناك من يرى أنّ الروائيين يعمدون إلى تقديم المرأة في أعمالهم الأدبية على أنها جسد مشتهى، ننفذ من خلاله إلى عوالمنا الخفية... ما رأيك؟! 
ج12 / لم يكن في ذهني وأنا أكتب هذه الرواية أن أعرض للمرأة على أنها جسد مشتهى. كنت معنيًّا بخلق نساء يعشن ظروفهن القاسية في مجتمع ذكوري، ويدافعن عن إنسانيتهن وعن حقهن في العيش الكريم على النحو الذي يعكس وعي كل واحدة منهن. وحين يبرز الجنس في الرواية فهو لا يبرز على حساب إنسانية المرأة واحترامها لجسدها، وإنما باعتباره عنصرًا من عناصر حياة الكائن البشري في وضع اجتماعي محدّد.

س 13 / ألم يحدث وأن تورطت في تحميل إحدى الشخصيات قناعاتك الخاصة، فحملت البطل مهمة الذود عن أفكارك المخبأة ؟
ج14 / حدث هذا في بعض قصص كتابي "صمت النوافذ" التي كتبتها عن الانتفاضة الأولى 1987 . حيث طغت الأيديولوجيا ووجهات نظري على بعض شخصيات القصص، ما أوقع هذه القصص في شيء من التكلف ومن التذهين الذي يحول القصة إلى فكرة. انتبهت إلى ذلك في ما بعد وصرت حذرًا تجاه فضاء الشخصية الذي يجب احترامه لكي تكون هذه الشخصية مقنعة للمتلقي.
في كل الأحوال، ثمة في ما أكتب شيئًا من أفكاري ورؤاي بالقدر الذي يحتمله النص الأدبي وينسجم مع منطقه الداخلي.

س 15 / هل تتعبك الكتابة، هل هي فعلاً كما يصفها البعض كجلد الذات؟
ج 15 / تتعبني حين أنهمك في تفاصيلها، لأنها تحتاج إلى تركيز ذهني واستنفار للمشاعر وللذاكرة ولعناصر الخبرة التي تراكمت على مرّ الزمن، تتعبني وأنا أعيد النظر في ما كتبت مرّات ومرّات، وتبهجني حين تصل إلى القارئات والقراء فتدخل البهجة إلى قلوبهن وقلوبهم.

س 16 / الرواية التاريخية أو التوثيق التاريخي كيف يمكن للأدب أن يخدم التاريخ من التزوير وخاصة في تلك الظروف السياسية المتغيرة؟
ج16 / الرواية حتى وهي تعتمد على التاريخ ليست تاريخًا، وكذلك أي نص أدبي آخر. لكن، مع مرور الزمن، يمكن العودة إلى النص الأدبي والتعاطي معه باعتباره وثيقة دالة على بعض ملامح العصر الذي ظهرت فيه.

س 17 / ما هي الإشكاليات التي من الممكن أن تقابل من يتصدي لكتابة رواية تاريخية من وجهة نظرك؟
ج17 / لم أكتب رواية تاريخية ولم أفكر في ذلك. أعتقد أن أهم إشكالية على الروائي الانتباه إليها ضبط النسبة والتناسب بين الوقائع التاريخية والعناصر المتخيلة في نصه الروائي. كلما طغت الوقائع على مادة النص قلّ عنصر المتعة فيه.

س18 / هل ترى أنه توجد أزمة قراءة في الوطن العربي بشكل عام وخاصة الأدب؟
ج18 / هذا مؤكد، ولا يحتاج إلى برهان. بإمكانك مراجعة الاستبيانات والتقارير حول القراءة في الوطن العربي، وبإمكانك أن تسأل الناشرين، وأن تنظر إلى الدائرة المحيطة بك في الحي السكني، وأن تلقي نظرة على المسافرين العرب في طائرة أو قطار أو حافلة لترى كيف أن القارئات والقراء قلة قليلة مع الأسف الشديد.

س19 / هل ترى أن الحريات العربية مازالت تعاني من القيود؟
ج19 / نعم، هي كذلك. فالحريات ليست مجرد شعار، بل هي ممارسة لها أساسها في نظام الحكم وفي مستوى التطور الاجتماعي والاقتصادي والثقافي للمجتمع. ثمة قيود كثيرة على الحريات، ونحن بحاجة إلى تمرين متعدد الجوانب لنتقن التعامل مع الحريات ونعيشها على نحو صحيح.

س20 / ترجمت لك العديد من الأعمال لعدد من اللغات المختلفة. إلى أى حد حقق الأدب العربى وجوده عالميا؟
ج20 / هناك حضور لبعض الكتاب العرب. مثلاً: نجيب محفوظ، محمود درويش، وأدونيس. وهناك حضور لكاتبات ولكتاب عرب كتبوا ويكتبون بلغات أجنبية. 
وثمة جهود فردية تسعى إلى تقديم الأدب العربي إلى العالم. أذكر في هذا الصدد مجلة "بانيبال" التي تشرف عليها مارغريت أوبانك وصموئبل شمعون. تقوم هذه المجلة منذ سنوات بالترجمة من اللغة العربية إلى اللغة الانكليزية لمشاهد من روايات ولقصص وأشعار. 

س21 / هل وصلت إلى قناعة بأن الحكايات هي من يمنحنا المعنى الحقيقي للحياة؟ 
ج21 / الحكايات هي السرد الشفاهي الذي يكرس فيه الشعب شيئًا من روحه ومزاجه وتجاربه في الحياة ، ثم يجري تدوين هذه الحكايات كي تطلع عليها الأجيال، لتساعدها على الكفاح من أجل أن يكون للحياة معنى، هذا المعنى الذي لا يكتمل إلا بحضور القيم الإنسانية النبيلة التي تجعل الحياة جديرة بأن تعاش. 

س22 / من آليات الكتابة إلى آليات النشر مسافة تبدو أولها تعب ممزوج بالمتعة وآخرها تعقيد وركض خلف ناشر كالسراب يختفي ليظهر من جديد ـ حدثنا عن رحلتك في الطريق إلى الناشر؟
ج22 / حين بدأت الكتابة في ستينيات القرن العشرين، لم تكن في فلسطين والأردن دور نشر بمعنى الكلمة. ولذلك تأخر صدور مجموعتي القصصية الأولى "خبز الآخرين" إلى العام 1975 ، حين ظهرت منشورات صلاح الدين في القدس، وقامت بنشر هذه المجموعة. 
الآن توجد دور نشر في الأرض المحتلة، لكنها تصطدم بصعوبات وعراقيل يومية بسبب الإجراءات التعسفية، ومنها الحواجز التي يفرضها الاحتلال الإسرائيلي على حركة الناس، وعلى انتقال الكتب عبر الحدود.
أنشر كتبي في فلسطين وفي بيروت وعمان، ولا أجد صعوبة في ذلك، رغم أن دخول كتبي إلى فلسطين يصطدم بالعراقيل نفسها التي وصفتها قبل قليل.

س 23 / ما أهمية أن يكون لدى الكاتب مشروع يعمل على تحقيقه؟
ج23 / هي أهمية مؤكدة. حيث تتكامل أفكار الكاتب ورؤاه، وتتضافر وتغتني مع توالي الإنجازات.

س 24 / ما رأيك بالجوائز الأدبية؟ وهل تشكل دليلا على إبداعية المنتج الأدبي؟
ج24 / أعتقد أن للجوائز فوائد غير قليلة، فهي تحفز على الكتابة وعلى الإبداع، وتخلق حراكًا لا بد منه لتنشيط الإبداع ولتنشيط النقد الأدبي في الوقت نفسه. بالطبع، لا يخلو الأمر من شطط هنا وهناك، إنما تبقى الآثار الإيجابية للجوائز أكبر بكثير مما تتسبب فيه أو تستدعيه من سلبيات.

س 25 / ماهو جديدك في الفترة القادمة؟
ج25 / أستعدّ، بعد أن استكملت وضع الملاحظات والتصورات، للشروع في كتابة روايتي الجديدة التي أتابع فيها مصائر عائلة العبد اللات، واستبطن في الوقت نفسه ملامح المرحلة التي يعيشها الشعب الفلسطيني في السنوات الأربعين الماضية، سواء أكان ذلك تحت الاحتلال الإسرائيلي أم في الشتات، وذلك من خلال ما يتعرض له بعض أبناء العائلة وبناتها من مشكلات ومعاناة.
وأقوم في الوقت نفسه، بوضع اللمسات الأخيرة على كتاب عن تجربتي في الكتابة، تلك التجربة التي ابتدأت أوائل ستينيات القرن العشرين وما زالت مستمرة حتى الآن، وكانت حصيلتها ما يقارب خمسين كتابًا للكبار وللصغار، وستة مسلسلات طويلة للتلفاز، وأربعة نصوص مسرحية، ومئات المقالات السياسية والأدبية.
______________

*منشور في الأهرام الثقافي
العدد 1019
تاريخ: 29 / 10 / 2016

الأربعاء، 16 نوفمبر 2016

تفاهم






قصة: محمود شقير 

بعد أيام من التسكع في مدن السواحل البعيدة، عادا إلى مدينتهما العتيقة الملفعة بالبخور وتعاويذ الجدّات الطاعنات في السن. هو عاد إلى ضجيج الحياة وهموم الرغيف. وهي عادت إلى غرفتها المليئة بالكتب ونباتات الزينة وأقفاص الطيور.

لم يحدثها على الهاتف كعادته، فقد يخدش عبق الأيام التي انقضت هناك على السواحل البعيدة. لم تحدثه على الهاتف كعادتها، إذ إن كلمة واحدة قد تجعل القلب يفيض، ويغرق العالم بمشاعر لا يمكن وصفها.



الأحد، 13 نوفمبر 2016

أين البيانات الثقافية؟


*محمود شقير

تفتقر حياتنا الثقافية هذه الأيام الى البيانات الثقافية التي درج على إصدارها، في فترات سابقة، وحتى وقت قريب، بعض المبدعين أو بعض التجمعات الإبداعية، التي لها توجهات ترغب في نشرها وتعميمها على سائر المبدعين وعلى جماهير القراء سواء بسواء.


وتتسم هذه البيانات،عادة، بمغايرتها للسائد والمألوف، وخروجها عليه، الى هذا الحد أو ذاك، باعتبار أنها ليست نزوة طارئة، أو مجرد استعراض، والا فما الداعي إليها إذا جاءت إضافة كمية الى ما هو معروف؟ أو جاءت لتعبر عن مزاج طائش لا ينطلق من استقراء صحيح للظروف! ومن هنا، نلفي هذه البيانات، وقد تضمنت في ثناياها، وجهة نظر جديدة تجاه قضية ثقافية ما، أو تجاه لون ما من ألوان الكتابة الإبداعية، كالشعر مثلا أو المسرح أو سواهما من ألوان الإبداع، أو تضمنت إعلانا عن ولادة مدرسة أدبية أو اتجاه فني يكسر دون هوادة قواعد الكتابة وأسسها التي أصبحت في حاجة الى تجديد، ويبشر بأساليب جديدة، تحمل الكثير من المغامرة والتجريب.


ولا تظهر مثل هذه البيانات، عادة، إلا في عز الأزمات، وعند المنعطفات الحادة، التي تبرر المراجعة وإعادة النظر في كل شيء، في السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة، وفي العلاقة بين الطبقات، ولا تظهر الا لإدانة ممارسات بعينها، وللارتقاء بواقع المجتمع والناس الى ذرى جديدة لم تكن متيسرة من قبل، ولتمكين الإبداع من التعبير بصدق أكثر عن الإنسان وعن مكنونات نفسه، وعما يعتمل فيها من عواطف وتطلعات.


أو كأن هذه البيانات، تأتي في أحيان أخرى، باعتبارها رد فعل غاضب، على واقع سياسي واجتماعي وثقافي بالغ الرتابة والركود، فكأنها الحجر الذي يلقيه طفل مشاغب في بركة آسنة، لعل مياهها تتموج بعض الشيء، فلا تظل راكدة على نحو فظيع. ومع الأسف الشديد فان بعض هذه البيانات، ورغم ما تشتمل عليه من مواقف وآفاق، تموت قبل أن يسمع بها الناس، أو ينتبه إليها المبدعون المعنيون، ربما لان رتابة الواقع أقسى من كل التوقعات، وربما لان مثل هذه البيانات لم تعثر على المفصل الصحيح الذي تبدأ من عنده امكانات التغيير والتصحيح والتجديد. ويكفي أن أشير في هذا الباب الى البيان الثقافي الذي أصدره قبل أشهر عديدة، أخوة لنا وزملاء في رابطة الكتاب الأردنيين، تحت شعار التجديد الثقافي، فلم نسمع شيئا من بعد عن هذا البيان، ولم يترك في واقعنا الثقافي أي اثر ملموس.


وأشير في هذا المقام أيضا، الى بيانات ثقافية عديدة صدرت في السنوات الخمس والعشرين المنصرمة، بعضها كان له تأثيره في حركة الإبداع العربي الحديث، ومنها بيان أدونيس بعد نكسة حزيران، وبيانه عن الحداثة، والبيان الذي أصدره الناقدان المقيمان في الأرض المحتلة محمد البطراوي وصبحي شحروري حول موقفهما من الأدب عموما ومن عملية الإبداع، ومنها بيان الدكتور محمود صبح، المقيم في إسبانيا، حول الشعر الحديث، وبيان لبعض الشعراء العرب المقيمين في بلدان الاغتراب، بعد أن ضاقت عليهم بلدانهم التي تفتقر الى الحرية والديمقراطية واحترام إنسانية الإنسان.


الآن، ورغم ما يزخر به واقعنا العربي من أزمات وانكسارات، ورغم حاجتنا الشديدة الى التغيير، والى الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان، فإن أحدا لا يسمع عن بيانات ثقافية جديدة تتمرد على الثبات والجمود، لان الأنظمة العربية الحاكمة، أو أغلبها، قد نجحت، ولو بشكل مؤقت، في تهميش الثقافة الوطنية، وتقليل فاعليتها إلى أكبر حد مستطاع، وفي الفصل بينها وبين الناس على نحو فاجع وغريب، ومع ذلك، فما زالت الحاجة ماسة إلى مزيد من البيانات الثقافية التي ترفع لواء التجديد.
_________

صوت الوطن 15/6-15/7/ 1992 / العدد 34 السنة الثالثة

الأربعاء، 9 نوفمبر 2016

اعتراف




*قصة: محمود شقير 


أنا أحب امرأة صبية، لها أخت متخرجة من معهد علوم الدين، متزوجة من رجل مدمن على الكحول، لهما طفل بريء مثل عصفور الحقول.

المرأة التي أحبها تحدثني دوماً عن الطفل حتى بتّ أحبه دون أن أراه، والمرأة التي أحبها لا تحدثني عن والد الطفل لأنه مدمن على الكحول.

والمرأة تحدثني عن زوج أختها الكبرى الذي يعمل دهاناً، وتحدثني عن زوج أختها الصغرى الذي يعمل مديراً لمعهد اللغات.

الوحيد الذي لا تحدثني عنه ولا أعرفه هو زوج أختها المدمن على الكحول، الذي التقيته قبل ليلتين في البار مع ثلة من الأصحاب، حدثني عن مناكفاته الدائبة مع زوجته المتخرجة من معهد علوم الدين، ثم أفرط في البكاء حينما حدثته عن طفل بريء مثل عصفور الحقول.



الأحد، 6 نوفمبر 2016

لماذا يغيب الحوار؟


*محمود شقير 

يغيب الحوار عن حياتنا على نحو عجيب، نفتقده في الأسرة التي تتجلى فيها سلطة الأب الواحد الأحد، وفي المجتمع الذي ما زال يغلب عليه الطابع البطريركي، رغم كل محاولات التحديث، وفي المدرسة التي يتأكد فيها منهج الحفظ والتلقين، وفي الجامعة التي تتضاءل فيها فرص البحث العلمي الرصين، وفي الصحيفة المدجنة التي تضبط خطواتها على إيقاع الرقيب، وفي المجلة التي تستنيم على موعد صدورها الأسبوعي أو الشهري الرتيب.

يغيب الحوار عن حياتنا، وتستفحل سلطة الرأي الواحد، ربما لان بورجوازيتنا العربية لم تنجز ثورتها على النحو المطلوب، فأصبحت كالمنبت لا ظهراً أبقى ولا أرضا قطع، وتصالحت في منتصف الطريق مع قوى الإقطاع المحلي (ما أبقى على القيم القديمة والتقاليد البالية) ومع القوى الاستعمارية الدولية (ما حجب فرص التطور الاقتصادي المستقل) ولم تعد، بفعل تسلط شرائحها الطفيلية والبيروقراطية على مقدرات المجتمع، معنية بالاعتماد على العلم بوصفه قوة إنتاجية، فاكتفت، من الغنيمة، بدور الوكيل المعتمد للإمبريالية العالمية أو دور الشريك الصغير، وأنتجت لنا مجتمعات هجينة تابعة تتداخل فيها المعتقدات والرؤى وأنماط المعيشة على نحو غريب.


ويغيب الحوار لأن الرأي الآخر مقهور مدحور، أو هو في أحسن الأحوال لا يحظى إلا بهامش ضئيل، بفعل سياسة الحكام المتسلطين أو القوى الطبقية السائدة، التي لها مصلحة في التحكم والنفوذ، فلا حرية للأحزاب، ولا تعددية سياسية، ولا مؤسسات دستورية، ولا علاقة بين الحاكمين والمحكومين سوى علاقة الولاء والخضوع في الظاهر والعلن، والنقمة والتذمر في السر والخفاء، ويغيب الحوار لأن الديمقراطية المنقوصة التي تحققت في بعض الأقطار، ما زالت مقيدة بالكثير من القيود، بحيث لا تتمكن قدرات الناس من الانطلاق ولا تستطيع الأحزاب السياسية، بوصفها المعبر عن تطلعات الناس، شق طريقها عميقاً في قلب مجتمعاتها بفعل القيود.


لذلك يغيب الحوار عن حياتنا، ويتخذ في أحيان شتى –إن وجد- شكل التخوين وتبادل الاتهامات وتصيد الأخطاء، فيتقوقع كل واحد منا على نفسه، معتقداً أنه وحده مالك للحقيقة دون نقصان، ويتقوقع كل حزب على تصوراته في شتى القضايا والشؤون ظاناً أنه وحده الجدير بقيادة المجتمع دون سواه، ما يوقعه، عن قصد أو دون قصد، في نزعة التعصب والمغالاة، وانعدام القدرة على محاورة الآخرين.


ولذلك، يتميز واقعنا السياسي والثقافي ببعض مظاهر المحاباة والمجاملة والنفاق والتغاضي عن التجاوزات والأخطاء، فيكثر في صفوفنا المتسلقون والمرتزقة والبيروقراطيون الذين يضيقون ذرعاً بالحوار، لأنه حركة وهم يعشقون الدعة والسكون. ويتميز واقعنا كذلك، ببعض مظاهر الجهل النابع من حجب المعلومات، ونقص المعرفة التي لا تستحثها الرغبة في البحث والاستقصاء، والأمثلة على ذلك عديدة، يمكن العثور عليها بتتبع بعض أنشطتنا السياسية والثقافية دون عناء.


إن نظرة سريعة على الحوارات الفكرية والثقافية والسياسية التي كانت تظهر على صفحات بعض الصحف والمجلات العربية في الخمسينيات والستينيات، إبان احتدام النضال الوطني ضد الاستعمار وأحلافه، والبحث عن أفق مستقل للتطور الاقتصادي، ترينا إلى أي حد كانت مفيدة ونافعة تلك الحوارات، وإلى أي مدى كان لها دورها في تعميق رؤيتنا للكثير من القضايا والمشكلات. صحيح، أن هزائمنا المتتابعة، واستفحال القمع السلطوي في بلداننا، وفداحة الهجمة الإمبريالية الصهيونية علينا، وانتشار القيم الاستهلاكية التي أشاعتها حقبة النفط بين ظهرانينا، قد أرهقت عزائم بعضنا، غير أن ذلك كله لا يبرر غياب الحوار عن حياتنا، خصوصاً ونحن نرى رأى العين، بأن أحداً لم يعد قادراً الآن على الادعاء باحتكار الحقيقة والصواب!

فلماذا وإلى متى يغيب الحوار عن حياتنا على هذا النحو العجيب؟

___________


*صوت الوطن 15/5-15/6/ 1992 / العدد 33 السنة الثالثة

الخميس، 3 نوفمبر 2016

رسائل غسان





*محمود شقير


ثمة استنتاجات كثيرة توصل إليها عدد من الكتاب، الذين تناولوا بالنقد والتحليل "رسائل غسان كنفاني الى غادة السمان"، غير أن أغربها ما اعتبر أن في نشر الرسائل إساءة مقصودة تستهدف غسان، باعتباره رمزا وطنيا.


ولعل ما كشفت عنه الرسائل من جوانب إنسانية في شخصية غسان أن تكون كافية للرد على هذه الاستنتاجات وتفنيدها، وبغض النظر عن أية التباسات أثارها أو قد يثيرها نشر الرسائل، فثمة حقيقة تتمثل في جرأة غادة السمان، التي بادرت الى نشر هذه الرسائل –الوثائق الأدبية- التي قد تمهد الطريق لتكريس مثل هذا النوع الأدبي الذي ما زال يفتقر إليه واقعنا الثقافي.


لكن نظرة مدققة في رسائل غسان، وفيما أورده فيها من تذمر، بسبب تمنع الحبيبة وصدها، تؤكد بان نشر الرسائل يترك هذا الأثر الأدبي ناقصا، ويدفعه الى البحث عن اكتماله الذي لا يكتمل دون نشر رسائل غادة، أو ما هو بديل منها على نحو ما.


فالعلاقة التي نشأت بين غادة وغسان، وما أحاط بها من محاذير تنتجها في العادة البيئة الشرقية المتزمتة، تتحول مع الزمن الى علاقة إشكالية معرضة في كل لحظة للانهيار، خصوصا في حالة الرجل المتزوج، الذي يجد نفسه على تخوم قلب امرأة أخرى. ولقد كان غسان واضحا وهو يحدد موقفه من علاقته الزوجية التي وضعته بين شقي الرحى، فلا هي قادرة على تحقيق سعادته الروحية، ولا هو مستعد لان يطوح في الفضاء بطفلين وامرأة لم يسيئوا إليه قط. والسؤال الآن: كيف تعاملت غادة السمان مع هذه العلاقة، وكيف استمرت صلاتها برجل متزوج كان يجد فيها خلاصه؟.


إن غياب رسائل غادة الى غسان، يحيلنا الى إشارة عابرة أوردتها غادة، في تعليق لها على إحدى رسائله وهي تقول :"اذكر جيدا أنني كنت دائما حريصة على كيانه العائلي بقدر حرصي على استقلالية كياني" ويحيلنا كذلك الى تذمر غسان المستمر في رسائله إليها، حيث يتقوّل الآخرون بان "علاقتنا هي علاقة من طرف واحد" ومع ذلك، فهو يحاول إيجاد العذر لها لأنها تقف في "منتصف الميدان" إزاءه، ولأن "الحياة قد خدشتها بما فيه الكفاية".


هذه الإشارات، وغيرها مما ورد في رسائل غسان، تثير العديد من الأسئلة، فهل كانت العلاقة بينه وبين غادة، فعلا، علاقة من طرف واحد؟ وإذا كان الأمر كذلك، فلماذا تستمر هي في الرد على رسائله؟ هل هو البحث عن النجومية وتكثير عدد المعجبين؟ فإذا صح هذا فإن فيه إدانة لسلوك غادة السمان، خصوصا حينما نتذكر الكلمات الحميمة التي كان يرفعها الى مقام قلبها غسان!! وإذا كانت غادة، كما ورد في ملاحظة لها على إحدى رسائل غسان، حريصة فعلا على كيانه العائلي، فكيف حققت مثل هذا الحرص؟ هل تم ذلك عبر تحديد واضح للعلاقة بينها وبينه، مما قد يدفع العلاقة كلها الى تغيير مسارها، والى انتفاء رسائل الحب منها!! أم عبر الصيغة المؤرقة التي أوردها غسان في إحدى رسائله :"لا تريدني ولا تريد غيابي"؟ مما يعيدنا ثانية الى احتمال النجومية وتكثير عدد المعجبين!!


لذلك، ولإن رسائل غادة ليست في حوزتها حتى الآن، فقد كان يتوجب عليها أن تنشر شهادتها الحية الى جانب الرسائل المنشورة، وان تضعنا في أجواء رسائلها هي، لكي نحكم لها أو عليها، ولكي نتحقق من موقفها الحقيقي إزاء هذا الحب الغامر الذي خصها به غسان، وان التعلل بالخوف من مجانبة الدقة، أو إساءة تأويل شهادتها، لم يكن ليعفيها من نشرها، بل انه ربما عجل في ظهور الرسائل. ومن اختارت ان تكون جريئة في وجه " المؤسسات المكرسة لرعاية الرياء الاجتماعي" فهي مطالبة بمواصلة جرأتها، دون أن تتوقف في "منتصف الميدان" كما قال ذات مرة غسان.

___________
صوت الوطن 15/12-15/1/1993 / العدد 40 السنة الرابعة









الثلاثاء، 1 نوفمبر 2016

لقاء



قصة: محمود شقير 

حينما التقيا في الغابة، تسّرب فجأة كل الكلام المنمق الذي نضّده في رأسه مثل أثاث بيت جميل. حينما التقيا تضاءل، اختبأ في داخله، وهي تحدثه عن أحدث الكتب، أجمل المقطوعات الموسيقية، وآخر صرعات الرقص والأزياء.

حينما انتهى الكلام، لم يجد شيئاً يفعله سوى أن يحفر اسميهما على ساق شجرة البلوط، هي تراقبه بإعجاب ، وهو يحفر بمهارة وحنكة، وفي قرارة نفسه يلهج بالعرفان لوالده الطيب، نجّار البلدة الوحيد الذي مات بين الأخشاب منذ أمد قصير.