*محمود شقير
كيف تتصرّف المرأة أثناء الحرب؟ وما هي المهمّات التي يمكنها الاضطلاع بها أثناء الحصار الذي يفرضه الغزاة على المدنيين؟ وكيف تتصرّف المرأة حينما تكون امرأة مبدعة أثناء الحصار؟ تطرح هذه الأسئلة نفسها ونحن نناقش كتاب "الحصار" لمي الصايغ، الذي تفرد فيه مؤلفته مساحة كافية للنساء الفلسطينيات واللبنانيات أثناء تجربة العيش في أتون معركة غير متكافئة ومن أشد المعارك ضراوة.
ذلك أنّ حصار بيروت، الذي وقع صيف العام 1982 جرّاء العدوان الإسرائيلي على لبنان، لتصفية منظمة التحرير الفلسطينية والحركة الوطنية اللبنانية، كان أبشع حصار تعرّض له الشعبان اللبناني والفلسطيني قبل الحصار المفروض على قطاع غزة الآن، فقد دام هذا الحصار كما هو معلوم ما يقارب ثلاثة أشهر، كانت بيروت أثناءها تتعرّض لقصف وحشي من الجو والبحر والبر، وكانت أبسط مستلزمات الحياة من ماء وخبز وكهرباء غير متوافرة إلا بصعوبة، وطال الدمار بيوتًا كثيرة، ما جعل الكثيرين من أهل المدينة مضطرين للنوم في العراء، وما جعل أزمة السكن تتفاقم على نحو غير مسبوق، بسبب نزوح أعداد كبيرة من أهالي الجنوب اللبناني إلى العاصمة، التي اعتقدوا أنها أكثر أمنًا، بعد اجتياح دبابات العدو الإسرائيلي لمدنهم وقراهم، ولمخيمات الفلسطينيين في الجنوب سواء بسواء.
وقد بادر عدد من الكاتبات والكتاب اللبنانيين والفلسطينيين، الذين عاشوا الحصار يومًا بيوم وساعة بساعة، إلى التطرّق لأيام الحصار القاسية، في أعمال أدبية شعرية وقصصية وروائية، وفي مذكّرات ويوميّات وسير ذاتية، نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر: "ذاكرة للنسيان" لمحمود درويش، "ثمانية وثمانون يومًا خلف متاريس بيروت" لمعين بسيسو، "آه يا بيروت" لرشاد أبو شاور، و"الحصار" لمي الصايغ .
وحيث أنّ كتاب مي الصايغ هو المستهدف في هذه المداخلة التي تسعى إلى تبيان دور المرأة بشكل عام والمرأة المبدعة بشكل خاص أثناء الحصار، فإنّ مجرّد الحديث عن حصار بيروت وعن الكتب التي تناولت هذا الحصار، لا يمكن إلا أن يغري باستحضار كتاب محمود درويش إلى واجهة الكلام، وذلك لأنّ كلا الكتابين، كتاب درويش وكتاب الصايغ، ينهل من معين تجربة عامّة واحدة، رغم أنّ كلاً منهما يستوحي تجربته الخاصة في تلقّي الحصار، وفي تأمّل ما يتركه في النفس من انفعالات وتصوّرات، وما يستتبع ذلك من تداعيات ومقارنات واستذكار لتجارب سابقة على الصعيد الشخصي وعلى الصعيد العام.
ولعلّ ما يغري بالتوقف عند كتاب درويش وأنا أتحدّث عن كتاب مي الصايغ، ليس الرغبة في المقارنة، وإنما تفسير بعض الجوانب في كتاب الصايغ في ضوء كتاب درويش، خصوصًا وأنّ كتاب "ذاكرة للنسيان" أسبق في الظهور إلى حيّز النشر من كتاب "الحصار" بسنتين تقريبًا. فقد سبق لدرويش أن أصدر كتابه على شكل نص طويل في العدد المزدوج 21 ، 22 من مجلة الكرمل العام 1986 ثم ما لبث أن أصدر هذا النص في كتاب العام 1987 بعد أن أجرى تعديلاً على العنوان الفرعي للنص، ففي حين كان عنوان النص: ذاكرة للنسيان/ المكان آب، الزمان بيروت، فقد أصبح عنوان الكتاب على النحو التالي: ذاكرة للنسيان/ المكان بيروت، الزمان آب.
وقد يصحّ التساؤل في هذه الحالة: هل تأثّرت مي الصايغ بكتاب محمود درويش الذي كان أسبق من كتابها في تناول حصار بيروت؟ ومنذ البداية أشير إلى أنّ تأثّر كاتب بكاتب آخر أمر مشروع ما دام غير واقعٍ في باب التقليد. وما دام لمي الصايغ أسلوبها الخاصّ الذي يفترق عن أسلوب محمود درويش، فلا غضاضة عليها إنْ تأثّرت بالكتاب لجهة تحفيزها على رصد تجربتها الخاصة أثناء الحصار.
ففي حين يستعين محمود درويش بتقينات الكتابة الروائية على نحو متقن، لكي يقدّم كتابه في قالب سردي رصين، وفي حين يستخدم أجزاء من سيرته الذاتية وبالذات قصة حبّه التي لم تكتمل ولا يمكنها أن تكتمل لفتاة يهودية تعرّف عليها في حيفا قبل ثلاث عشرة سنة من الحصار، لإضفاء حيوية على السرد ولتجنيب نصّه الجفاف المتوقّع من مجرّد الاكتفاء بسرد الوقائع الخارجية التي يمكن العثور عليها في الوثائق وفي المصادر الإعلامية المختلفة، فإنّ مي الصايغ أيضًا لا تكتفي بسرد الوقائع الخارجية في كتابها، وهي لا تلبث بين الحين والآخر أن تتذكّر حياتها الخاصّة مع أمها وأهلها في غزة، إبّان الاحتلال الإسرائيلي لقطاع غزة العام 1956 ، وهي تتذكّر بين الحين والآخر أبناءها الذين يعيشون في الخارج بسبب الدراسة في الجامعات، وتتحدّث عنهم بشكل حميم.
في كتاب "ذاكرة للنسيان"، نقرأ سيرة يوم في شهر آب من العام 1982 ، ونرى رأي العين فداحة الآثار النفسية الناتجة عن القصف الإسرائيلي لبيروت طوال ذلك اليوم، وانعكاس هذا القصف على أمزجة الناس وتصرفاتهم ورغباتهم وأهوائهم. ولا يقف محمود درويش في كتابه عند حدود هذا اليوم بل إنه يحلّق في اتجاهات شتى، مضفيًا على نصه أبعادًا جمالية وفكرية تجعله كتابًا أدبيًا متعدّد المستويات، ومن أجل ذلك فقد لجأ إلى الحلم، التذكّر، تداخل الأزمنة، استحضار الذكريات، والتناصّ باستخدام مقاطع من التوراة والإنجيل ومن كتابات ابن الأثير، ابن كثير، أسامة بن منقذ، وسيرفانتس.
وأثناء ذلك، اتخذ السرد لدى محمود درويش مستويات متعدّدة تبعًا للحالة الموصوفة ولما يلزمها من صياغات لغوية. مرّة تكون اللغة بسيطة مباشرة تعبّر عن وقائع عادية، ومرّة أخرى تكون اللغة شعرية متدفّقة حالمة مكتنزة بجماليات الصياغة الأدبية التي تقترب من تخوم الشعر. وحينما يحتاج درويش إلى تقديم وجهة نظر سياسية فيما يحدث، أو حينما يرغب في تقديم مادة سياسية، فإنّ لغة الشعر تختفي أو تكاد، لكي نظفر بمادة سياسية واضحة المرامي والغايات.
إنّ كتاب "ذاكرة للنسيان" بما اشتمل عليه من تقنيات ومن تعدّد في مستويات السرد، ومن تكثيف حينًا وإسهاب حينًا آخر، ومن طرح لقضايا سياسية وأدبية ووجودية وإنسانية، ومن مقاطع شعرية من قصائد تعتمل في نفس صاحبها، وستظهر في وقت لاحق على شكل قصائد مكتملة، يصدق عليه وصف: النصّ المفتوح الذي يستوعب عددًا من الأجناس الأدبية، ومن بينها جنس السيرة الذاتية المتماهي في صياغته الفنية مع السرد الروائي، وهو الأمر الذي أكسب كتاب محمود درويش وما زال يكسبه قيمة أدبية راقية.
في كتاب "الحصار" تستعين مي الصايغ بشكل اليوميات للتعبير عن مشاهداتها، وعن الدور الذي اضطلعت به أثناء الحصار هي ونساء أخريات. ومع ذلك، فإنّ الكتاب يفيض عن شكل اليوميات ويتجاوز محدودية هذا الشكل الكتابي، بما اشتمل عليه من وصف وتأملات ومن استخدام للتقطيع وتقديم المشاهد المتتالية، والاستعانة بالشعر لتعزيز بعض المواقف والحالات، فلغة الكاتبة تصبح خبرية تقريرية لدى نقل الأحداث اليومية أثناء العدوان، وهي لغة شعريّة جميلة لدى التعبير عن المشاعر أو التأمل في أحوال المدينة وأحوال الناس تحت الحصار
وهي تدخل بعض جوانب من سيرتها الذاتية في تفاصيل الكتاب، ما أكسبه مزيدًا من الصدقيّة والجاذبيّة والإقناع، إذ تتحدّث عن أبنائها وتبدي شوقها إليهم، لكنّها تشعر بشيء من الارتياح لأنهم موجودون خارج جحيم الحصار بمحض الصدفة. وتتحدّث عن والدها ووالدتها على نحو يخفّف من وطأة الرصد التقريري للوقائع الخارجية. كما تتحدّث عن زوجها بين الحين والآخر بطريقة ذكيّة، تسمّيه مرّة: أبو حاتم، ومرّة أخرى: محمد، ولا تشير مباشرة إلى أنه زوجها، غير أنّ السياق السردي يدلّ على ذلك. وهي بتعاملها مع شخصية أبي حاتم على هذا النحو، بدت كما لو أنها تسند لهذه الشخصية مهمّة الضمير اليقظ، الذي يظهر في اللحظة الفاصلة ليقدّم نصيحة أو رأيًا سياسيًا رصينًا أو نبوءة صادقة الخ... علاوة على ما في هذا الموقف من احترام للرجل الذي يصمد في الشدائد، ويظلّ محتفظًا باتزانه وبعدم فقدانه للبوصلة في أصعب الأوقات.
وفي الكتاب، إبرازٌ لدور الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية، ولدور المرأة الفلسطينية واللبنانية أثناء الحصار، حيث الاهتمام اليومي بمساعدة الجرحى وتقديم التموين والإعتناء بنظافة الأمكنة، وإلى جانب هذه المهامّ الإنسانية والنضالية، فثمة حرص من الكاتبة على حضور الاجتماعات السياسية والتنظيمية، وعلى إرسال الرسائل إلى منظّمات نسوية وإلى جهات أخرى في العالم لحثّها على التضامن مع بيروت المحاصرة ومع شعبها الصامد تحت الحصار.
وفي الكتاب، إبرازٌ لموقف الكاتبة نفسها من الأطفال وحرصها عليهم وتعاطفها معهم، وكذلك إبراز لمواقف نساء أخريات تجاه أطفالهن وتجاه الأطفال الآخرين تحت القصف وفي المستشفيات الخ... وقد يصحّ القول إنّ الكاتبة أكثرت من رصد الوقائع الخارجية التي أثقلت على القيمة الأدبية لكتابها، ويبدو أنّ ما دفعها إلى الإكثار من هذه الوقائع، رغبتها في توثيق الجرائم التي ارتكبها المعتدون الصهاينة ضد الشعبين اللبناني والفلسطيني جرّاء عدوانهم على لبنان وحصارهم لعاصمته بيروت.
وفي كتابها، تبدو مي الصايغ ملتزمة حتى النهاية بأفكارها الوطنية التقدمية وبطريقة صياغة هذه الأفكار ضمن منظور الواقعية الاشتراكية وتجلياتها في الأدب كما وصلت إلينا أو كما فهمناها أوائل ستينات وسبعينات القرن العشرين. فالكتاب ينتهي نهاية فيها تفاؤل وتمجيد للمقاومة وللفدائيين ولبيروت، وهي تطرح وجهة نظرها السياسية بصراحة ضد التسوية وضد الخروج من بيروت حينما كان موضوع الخروج منها يناقش في دوائر ضيقة لدى القيادة الفلسطينية.
وهي تنهي كتابها بقصيدة طويلة عنوانها "الرحيل" تظهر فيها نزعة التفاؤل على نحو مؤكّد، وتختتمها وتختتم الكتاب على النحو التالي:
والآن
وأنت مالك التراب والهواء
وأنت أيها المستيقظ الوحيد من العراء
تدق أول المدنْ
وترفع الزمن
على هياكل الأحباب والسفنْ
بيروت فيكَ
تهزمُ الزمنْ
ولعلّ هذه النزعة الانتصارية المتفائلة تغرينا بالنظر إلى نهاية كتاب "ذاكرة للنسيان"، حيث يبدو الفارق بين نظرة كلّ من درويش والصايغ إلى الواقع وإلى طريقة تجسيده في الأدب، فقد ثابر محمود درويش في مطلع حياته الأدبية على كتابة قصائد يتبدّى فيها التزامه بالواقعية الاشتراكية وبما تتطلبه من تفاؤل وتبشير بانتصار القوى الصاعدة على قوى التخلف والهيمنة والعدوان والاستغلال، ثم ما لبث أن تخلّى عن هذا الالتزام، أو عن هذا الشكل المتزمّت من الالتزام، لقناعته بأنه يؤطّر الأدب ضمن مقولات فكرية وسياسية تشكّل قيدًا على الأدب نفسه وعلى جمالياته، وبدلاً من ذلك راح يحبذ الذهاب بعيدًا نحو الولاء لإنسانية نصّه الأدبي الذي لا يتخلى عن الفكرة وإنما يسمو بها، ما يهبها انتشارًا واسعًا وديمومة أكيدة، بحيث لا يظلّ النصّ الأدبي سواء أكان نثرًا أم شعرًا أسير اللحظة الراهنة، ولا رهينة لمفاهيم نظرية قلّلتْ من رحابة الواقعية ومن قدرتها على الاستفادة من مدارس أدبية أخرى، وعلى استيعاب الحياة بكلّ ما فيها من تقلّبات وأهواء وما فيها من هزائم وانتصارات.
لذلك، لا غرابة في أن ينتهي كتاب "ذاكرة للنسيان" بذلك النوع من التشاؤم الذي يحرّض على طرح الأسئلة، حيث التناصّ مع التراث ممثّلاً في سفينة نوح التي تقوم برحلة محكوم عليها بأن تنتهي إلى يقين يبشّر بيابسة ترسو عندها السفينة، في حين أنّ نهاية كتاب درويش لا تبشّر بأيّ يقين: "لا أحب البحر، لا أريد البحر، لأنني لا أرى ساحلاً ولا حمامة. لا أرى في البحر غير البحر، لا أرى ساحلاً. لا أرى حمامة".
هنا، يتخذ محمود درويش من الواقعة المتمثّلة في خروج قادة منظمة التحرير الفلسطينية ومقاتليها من بيروت على متن السفن عبر البحر، متّكأ لتصعيد نصّه الأدبي إلى أفق أشمل، لنصبح أمام مسألة وجودية ترفض الأجوبة اليقينية، وتأخذنا إلى فضاء الرحلة الإنسانية الباحثة عن المعرفة عبرَ طرْحِ المزيد من الأسئلة.
لهذا يبدو تشاؤم درويش في نهاية كتابه هذا، نوعًا من التعالي على الراهن المؤقت وما يفضي إليه من أفق محدود، لتحقيق رسالة الأدب في طرح الأسئلة المحرّضة على البحث عن الحقيقة، وليس الركون إلى تقديم الأجوبة. ولهذا كان سؤال درويش الكبير بعد بضع سنوات من كتابه هذا: لماذا تركت الحصان وحيدًا؟ مفتتحًا بذلك مرحلة كبرى من مراحل تطوّره الشعري التي عزّزت الحضور الكوني للقضية الفلسطينية.
وبغضّ النظر عن الكلام على نهاية كلّ من الكتابين، وعن الفرق بينهما المتأسّس على نظرتين مختلفتين، وإنْ كانت كلّ واحدة من النظرتين تسعى بطريقتها الخاصة إلى خدمة القضية الفلسطينية، تظلّ لكتاب مي الصايغ أبعاده المؤثّرة. فهي وإنْ قيّدت كتابها برصد الكثير من الوقائع الخارجية، فإنّ توثيق هذه الوقائع بسبب ما فيها من إدانة للغزو الإسرائيلي البربري للبنان، أمرٌ جدير بأن تطّلع عليه الأجيال القادمة، وبأن يظلّ شهادة دامغة على عنصرية الغزاة الإسرائيليين ومعاداتهم للسلام العادل، ولكلّ ما هو طبيعي ومنطقي وإنساني في القضية الفلسطينية.
والكتاب إلى ذلك لم يكن مجرّد رصد للوقائع الخارجية، ففيه تأمّلات في الموت وفي الحياة، وفيه كذلك تجليات للنص المفتوح الذي يعتمد على أكثر من جنس أدبي، وفيه لغة جميلة ومشاهد حميمة، مكتوبة بأسلوب يؤكّد قدرة الشاعرة مي الصايغ على اختزان أدقّ التفاصيل أثناء معاناتها اليومية من الحصار، ثم لا تلبث هذه التفاصيل أن تظهر على شكل نثر أدبي جميل.
* نشرت هذه المقالة في مجلة "أوراق فلسطينية"/ رام الله_فلسطين/ العدد السادس والسابع/ ربيع وصيف 2014