محمود شقير
ظاهرة الكلام الفضفاض تملأ الفضاء علينا. كلما داهمتنا الأزمات، وتجد لها تربة خصبة في مجتمعات القمع، للتخلص من رقابة الأجهزة وللتملص من المسؤوليات الواضحة، ولا تكف عن التكاثر في مجتمعات الديمقراطية الوليدة في بعض البلدان العربية، لان غياب المؤسسات الرصينة التي ترسخ حرية الحوار وحق الاختلاف في الرأي، لسنوات طويلة، مسؤول عن ظاهرة الكلام الفضفاض، الذي يملأ صدور الناس بالآمال العريضة، ثم تتبدد الآمال، تاركة خلفها سيلاً من مشاعر الخيبة والإحباط.
بعض المتتبعين لظاهرة الكلام الفضفاض، من الكتاب والنقاد، ينحون باللائمة على اللغة العربية، ويتهمونها بالمسؤولية، عن هذه الظاهرة، لأنها تشتمل على معين لا ينضب من المترادفات، ولأنها تسلس قيادها لكل راغب في الاستطراد، ولأنها مخصوصة، من دون الكثير من اللغات، بأساليب بلاغية –وهذه ميزة كبرى- تغري على الاشتطاط في الخيال. ألم يجعل الشاعر العربي القديم ممدوحه شمساً، وبحراً، وجبلاً محمولاً على أكتاف الرجال، حتى إنه قيل –وليته لم يقل- أعذب الشعر أكذبه!.
غير أن ظاهرة الكلام الفضفاض باعتبارها تمويهاً للحقيقة لا تنطبق على الشعر والأدب بأي حال، لأن من حق المبدع أن يطلق لخياله العنان، لكي يصور الموقف الذي يلح عليه أحسن تصوير، ولكي يقرب هذا الموقف من وجدان المتلقي على أجمل وجه ممكن. إن المقصود هنا هو كلام السياسة والسياسيين، فالسياسة علم يفترض فيه أن يحيط بالظواهر السياسية إحاطة دقيقة متبصرة، فكيف يصبح حال الأمة إذا أفرط بعض السياسيين في الاتكاء على الكلام الفضفاض!.
أقول ذلك، وفي البال، تلك المهرجانات الشعبية، والندوات، التي واكبت أزمة الخليج، وتلك الخطب الحماسية التي ألقاها على أسماع الناس عدد غير قليل من الخطباء الذين استندوا الى البلاغة العربية، فاستنزلوا على الإمبريالية الأمريكية كل ما تستحقه من غضب واحتقار، فلم تسفر الخطابة عن تعميق للوعي السياسي للناس، لكثرة ما اشتملت عليه من مبالغات، فأصبح حالنا كحال ذلك العربي الذي قال "أوسعتهم شتماً وأودوا بالإبل".
ولست اقصد إطلاقاً، أن أقلل من أهمية المهرجانات والندوات، ودورها في التعبئة ضد الإمبريالية الأمريكية، وفي التضامن مع العراق، ولا أن أصادر حق أحد في التعبير عن رأيه. ما أقصده بالضبط هو ضرورة الانتباه إلى ظاهرة الكلام الفضفاض، التي تورط فيها أكثرنا إبان الأزمة، وبالذات بعض القوى السياسية ذات البرامج غير الواقعية، التي راحت تمني الجماهير بالنصر المؤكد على الأعداء، وحينما لم تتحقق نبوءتها، لم تكلف نفسها عناء مراجعة موقفها ومحاكمته، بل إنها أمعنت في تجاهل الوقائع الصارخة، واستعانت بالتراث لتستخرج منه ما يوحي بأن حرب الخليج هي محطة من محطات النصر على الأعداء، تماماً، مثلما كان الحال في معركة أُحد التي يعرفها الجميع!.
إن الحرص على الجماهير من مغبة الإحباط لا يعني الإمعان في حجب الحقيقة عنها، لان ذلك يهيئ الفرص لمزيد من الهزائم والنكبات، وإن ما يخدم الحقيقة هو مراجعة التجربة بشجاعة وإخلاص، والتعرف على ما فيها من نواقص وأخطاء، والاستعداد الصحيح للنضال ضد مخططات الأعداء.
علينا –والحالة هذه- أن نحاصر ظاهرة الكلام الفضفاض التي صورت ما جرى عام 1967 من انهيار مروع، بأنه مجرد "نكسة" عابرة ما دام الأعداء لم يتمكنوا من إسقاط "الأنظمة الوطنية التقدمية" القائمة آنذاك، والتي تحاول، بالمنطق التبريري نفسه، أن تختزل ما جرى في الخليج بالقول إنه لم يكن نصراً لأحد ولا هزيمة لأحد! مخفية بذلك فداحة العدوان الأمريكي على العراق، لا لشيء إلا انصياعاً لمنطق الكلام الفضفاض، فهل يصح مثل هذا الكلام؟!.
_________
مجلة صوت الوطن أيار 1991/ العدد 21 السنة الثانية.