الأحد، 30 أكتوبر 2016

ضد الكلام الفضفاض




محمود شقير


ظاهرة الكلام الفضفاض تملأ الفضاء علينا. كلما داهمتنا الأزمات، وتجد لها تربة خصبة في مجتمعات القمع، للتخلص من رقابة الأجهزة وللتملص من المسؤوليات الواضحة، ولا تكف عن التكاثر في مجتمعات الديمقراطية الوليدة في بعض البلدان العربية، لان غياب المؤسسات الرصينة التي ترسخ حرية الحوار وحق الاختلاف في الرأي، لسنوات طويلة، مسؤول عن ظاهرة الكلام الفضفاض، الذي يملأ صدور الناس بالآمال العريضة، ثم تتبدد الآمال، تاركة خلفها سيلاً من مشاعر الخيبة والإحباط.


بعض المتتبعين لظاهرة الكلام الفضفاض، من الكتاب والنقاد، ينحون باللائمة على اللغة العربية، ويتهمونها بالمسؤولية، عن هذه الظاهرة، لأنها تشتمل على معين لا ينضب من المترادفات، ولأنها تسلس قيادها لكل راغب في الاستطراد، ولأنها مخصوصة، من دون الكثير من اللغات، بأساليب بلاغية –وهذه ميزة كبرى- تغري على الاشتطاط في الخيال. ألم يجعل الشاعر العربي القديم ممدوحه شمساً، وبحراً، وجبلاً محمولاً على أكتاف الرجال، حتى إنه قيل –وليته لم يقل- أعذب الشعر أكذبه!.


غير أن ظاهرة الكلام الفضفاض باعتبارها تمويهاً للحقيقة لا تنطبق على الشعر والأدب بأي حال، لأن من حق المبدع أن يطلق لخياله العنان، لكي يصور الموقف الذي يلح عليه أحسن تصوير، ولكي يقرب هذا الموقف من وجدان المتلقي على أجمل وجه ممكن. إن المقصود هنا هو كلام السياسة والسياسيين، فالسياسة علم يفترض فيه أن يحيط بالظواهر السياسية إحاطة دقيقة متبصرة، فكيف يصبح حال الأمة إذا أفرط بعض السياسيين في الاتكاء على الكلام الفضفاض!.


أقول ذلك، وفي البال، تلك المهرجانات الشعبية، والندوات، التي واكبت أزمة الخليج، وتلك الخطب الحماسية التي ألقاها على أسماع الناس عدد غير قليل من الخطباء الذين استندوا الى البلاغة العربية، فاستنزلوا على الإمبريالية الأمريكية كل ما تستحقه من غضب واحتقار، فلم تسفر الخطابة عن تعميق للوعي السياسي للناس، لكثرة ما اشتملت عليه من مبالغات، فأصبح حالنا كحال ذلك العربي الذي قال "أوسعتهم شتماً وأودوا بالإبل".


ولست اقصد إطلاقاً، أن أقلل من أهمية المهرجانات والندوات، ودورها في التعبئة ضد الإمبريالية الأمريكية، وفي التضامن مع العراق، ولا أن أصادر حق أحد في التعبير عن رأيه. ما أقصده بالضبط هو ضرورة الانتباه إلى ظاهرة الكلام الفضفاض، التي تورط فيها أكثرنا إبان الأزمة، وبالذات بعض القوى السياسية ذات البرامج غير الواقعية، التي راحت تمني الجماهير بالنصر المؤكد على الأعداء، وحينما لم تتحقق نبوءتها، لم تكلف نفسها عناء مراجعة موقفها ومحاكمته، بل إنها أمعنت في تجاهل الوقائع الصارخة، واستعانت بالتراث لتستخرج منه ما يوحي بأن حرب الخليج هي محطة من محطات النصر على الأعداء، تماماً، مثلما كان الحال في معركة أُحد التي يعرفها الجميع!.


إن الحرص على الجماهير من مغبة الإحباط لا يعني الإمعان في حجب الحقيقة عنها، لان ذلك يهيئ الفرص لمزيد من الهزائم والنكبات، وإن ما يخدم الحقيقة هو مراجعة التجربة بشجاعة وإخلاص، والتعرف على ما فيها من نواقص وأخطاء، والاستعداد الصحيح للنضال ضد مخططات الأعداء.


علينا –والحالة هذه- أن نحاصر ظاهرة الكلام الفضفاض التي صورت ما جرى عام 1967 من انهيار مروع، بأنه مجرد "نكسة" عابرة ما دام الأعداء لم يتمكنوا من إسقاط "الأنظمة الوطنية التقدمية" القائمة آنذاك، والتي تحاول، بالمنطق التبريري نفسه، أن تختزل ما جرى في الخليج بالقول إنه لم يكن نصراً لأحد ولا هزيمة لأحد! مخفية بذلك فداحة العدوان الأمريكي على العراق، لا لشيء إلا انصياعاً لمنطق الكلام الفضفاض، فهل يصح مثل هذا الكلام؟!.
_________

مجلة صوت الوطن أيار 1991/ العدد 21 السنة الثانية.

الأربعاء، 26 أكتوبر 2016

الحرب القادمة



قصة: محمود شقير


من قال إننا لا نستعد للحرب القادمة؟ تنشر المرأة غسيلها على حبال الجيران، تعضّ الملاقط الخشبية ملابسها الداخلية، والمرأة تحلم بأيام رتيبة وتتذكر.

كنّاس البلدية يجمع القمامة من زوايا الشارع وهو يسعل، فالطقس الكئيب يجرح حلقه مثل زجاج يتكسر. وبائع الحليب لا يكترث – ما دام في آخر الشهر يقبض الثمن من السادة المترفين – إذا انسلت القطط الهرمة إلى الأواني الزجاجية التي لم يحكم إغلاقها جيداً، تدحرجها أمام الأبواب المغلقة، تلعق منها حليب الصباح الدافىء، تأهباً ليوم طويل من التثاؤب والتمطي.

الاثنين، 24 أكتوبر 2016

عن هموم الكتابة


قبل عام بالتمام والكمال كنت في براغ أتهيأ للعودة الى عمان. يومها كتبت مقالة، أشرت فيها الى أنني لم اكتب طوال فترة إقامتي في براغ سوى القليل القليل، وقلت "هأنذا أعود الى عمان، لعلي أكتب شيئا فأشعر بالطمأنينة وراحة البال".


وحقيقة الأمر أنني لم أكتب شيئا طوال هذا العام، ليس لأنني عازف عن الكتابة أو زاهد فيها، بل لأن الشروط التي تتحقق فيها الكتابة الإبداعية لم تتوفر لي، ولا يبدو أنها ستتوفر في مستقبل قريب، وأنا أكتب عن هذا الأمر، ليس لاستعراض هم شخصي، وإنما لتشخيص ظاهرة تأخذ بخناق الكثيرين من المبدعين الفلسطينيين وتهدد بقتل حوافز الإبداع في صدورهم أو إخمادها لفترات قد تقصر وقد تطول.


وأقصد هنا ظاهرة الانتماء الحزبي للتعبير عن الهم الوطني الفلسطيني وما يستتبعه من نشاطات يومية وارتباطات وعلاقات، وما يترتب على ذلك كله من مهمات تجعل المبدع المنهمك فيها مقيدا على مدار الأيام والأسابيع بدوامة من التفاصيل التي لا تترك له وقتا للقراءة ولا تتيح له الانفصال قليلا عن اليومي المباشر، لكي يتأمل من مسافة ما صورة الوضع في شمولها، وليعيد ترتيب أجزاء هذه الصورة على النحو الذي يتطلبه الإبداع، فيصبح المبدع والحالة هذه كالغراب الذي ضيع مشيته، فلا هو قادر على ملاحقة اليومي والاستجابة لمتطلباته، ولا هو قادر على مواصلة نشاطه الإبداعي على نحو صحيح، فيتحول –والعياذ بالله- الى كاتب ضيق الأفق، فقير الخيال، يسيء لجلال قضيته الوطنية من حيث لا يقصد بأي حال من الأحوال.


والحق فإن مسؤولية كبرى، تقع على عاتق التنظيمات التي يستبد بها الهوس لملاحقة ما هو يومي، آني، ومباشر على حساب ما هو مستقبلي، استراتيجي، وذو فعالية بعيدة وتأثير مستديم مما يجعلها غير مكترثة بتطور قدرات الباحثين المنتمين الى صفوفها أو الانتباه الى صقل ملكات المبدعين الحائزين على عضويتها، وتمكينهم من الظهور على الملأ بإبداعات متميزة عميقة مما يقود في نهاية المطاف، إلى اغتراب المبدعين عن تنظيماتهم، واضطرارهم –عن حق أحيانا وعن غير حق أحيانا أخرى- إلى التخلي عن عضويتهم فيها لأنهم لم يجدوا أنفسهم في داخلها، ولم يتمكنوا من الحفاظ على تألقهم باعتبارهم مبدعين قبل أن يكونوا دعاة سياسيين.


بالطبع لا أقصد أن أقيم تعارضا من أي نوع كان بين التنظيم الحزبي وممارسة العمل السياسي من جهة وبين الإبداع من الجهة الأخرى. فالأمر الطبيعي أن تتفتح ملكات المبدع وتزداد تجربته الحياتية خصوبة وغنى عبر الانتماء وممارسة العمل السياسي، شريطة أن يتفهم التنظيم جيدا طبيعة المبدع وحدود ممارسته السياسية. أما أن يستمر التعاطي مع المسألة على نحو اعتباطي، كما هو الحال في تنظيماتنا السياسية الفلسطينية فذلك هو البؤس المؤكد والداء العضال.


بالنسبة لي، فإن انهماكي كل يوم في مهمات بعيدة عن الكتابة الإبداعية يجعلني شديد القلق كثير التذمر، وعلى الرغم من تفهم الرفاق المحيطين بي لتذمري وإبدائهم الاستعداد لتوفير كل ما من شأنه أن يساعدني على الكتابة، فإنهم –للأسف- ينسون كل وعودهم الطيبة أمام التزاحم المفرط للمهمات اليومية التي تنتظر الإنجاز.

فمن يدلني على المعادلة السديدة التي توفق على نحو متوازن بين إبداع المبدع ونشاطه السياسي؟ من؟

___________

صوت الوطن تموز 1991/ العدد 23 السنة الثانية





السبت، 22 أكتوبر 2016

مشهد






*محمود شقير


الضباب الطارىء يمنع المرأة من الوقوف طويلاً على الشباك، أو هكذا تدعي المرأة التي تقف في وداع رجل تراه في مخدعها للمرة الألف.

الضباب الطارىء يمنع الرجل من النظر طويلاً إلى أعلى، فالزجاج الشفاف يبدل عاداته المألوفة، أو هكذا يدعي رجل، لا يحب أن يرى المرأة التي فكر بالانفصال عنها للمرة الألف.


الثلاثاء، 18 أكتوبر 2016

مقاهي المثقفين


*محمود شقير


     لمقاهي المثقفين العرب دور في ثقافتنا العربية المعاصرة، ولها وظائف عديدة، بحسب نوعية القطر العربي المعني، ودرجة تطوره السياسي، ومقدار الحريات الديمقراطية التي ينعم بها مواطنوه، أو مستوى القمع السياسي فيه.

     ولهذه المقاهي سمات وأجواء ومواقع وأسماء تختلف باختلاف المدن التي تنتشر فيها، وباختلاف الأحياء. فقد تكون على شاطئ بحر أو على ضفة نهر، وقد تكون في شارع راق مليء بأفخر المعروضات،   أو في حي شعبي تندلع فيه أصوات الباعة الشعبيين. وإذا كانت هذه المقاهي واقعة في بلد مدجج بالقمع وهراوات البوليس، فسوف نجد حوارات المثقفين فيها، وقد اتسمت بالحذر والخشية من المخبرين الذين يتوزعون على مقربة من المتحاورين، أما إذا كانت واقعة في بلد ديمقراطي منفتح على كل جديد، فإن الحوار يتسم، والحالة هذه، بالتعبير الحر عن كل ما يجيش في النفوس من آمال.

     ولقد كان للمقاهي التي يرتادها المثقفون العرب – وما يزال- دور في إغناء الثقافة العربية والإبداع، ففيها تفتقت أذهان المثقفين والكتاب عن مشاريع ثقافية لا تحصى، وفيها دارت نقاشات عديدة تناولت السياسة أو المجتمع ومختلف قضايا الأدب والفكر والفن. وعبر العديد من الروايات العربية والقصص القصيرة المنشورة، تلمسنا أجواء المقاهي الأثيرة، وشاهدنا المخبرين القابعين في الزوايا وهم يتظاهرون بقراءة الصحف أو بالانهماك في احتساء القهوة، بينما آذانهم تصغي لالتقاط كل نأمة أو همسة يبوح بها رهط المثقفين الجالسين في المقهى، وتعايشنا، كذلك، مع شخصية النادل الطيب الذي لا يفتأ يركض في فضاء المقهى العابق بالدخان، حاملاً كؤوس الشاي وفناجين القهوة للزبائن المنتظرين، ثم يصبح، مع الزمن، صديقا للمثقفين يدلهم بعينه الخبيرة على المخبرين القدامى والجدد، ويتبادل معهم، بالتصريح حينا وبالتلميح أحياناً، الحديث عن سوء الأوضاع، ويتباهى، أحياناً أخرى، بمعرفته لبعض مصطلحات المثقفين التي تتطاير عرضاً، فتصل الى أذنيه، فيحفظها ويرددها على أسماعهم من جديد، فيضحكون معجبين به كأنهم يستبشرون خيراً.

     ومع تعاقب الأشهر والسنين، يصبح المقهى بديلاً جزئياً من الحزب المحظور، تتردد بين جنباته أفكار سياسية وتأملات وأشواق، ويصبح بديلاً جزئياً من منابر الجامعات، التي تمعن في التقوقع بعيداً عما يزخر به المجتمع من حركة وأحداث، تذرعاً بالانصراف إلى البحث الأكاديمي الصرف، وتوقياً من الاصطدام بالسلطة في حقيقة الحال، ويصبح المقهى في زمن القمع والتفكك والعزلة مظهراً من مظاهر التواصل الاجتماعي وازدهار الروح التي تتهيأ لكسر الحواجز والانطلاق.

  
     وإذ تتكاثر الهزائم وتشتد مؤامرات الأعداء، ويصبح الهم السياسي طاغياً على كل ما عداه، فإن الخلل في العلاقة بين السياسي والثقافي يستفحل، ويصبح من مسؤولية السياسيين والمثقفين سواء بسواء، أن يتداركوا الأمر، لأن هذا الخلل يقود مع تفاقم الأحداث إلى عزلة الثقافي عن الناس تحت ضغط انشغال الناس بالسياسي اليومي، ويقود تبعاً لذلك، إلى عزلة المثقفين والكتاب رغماً عنهم، وإلى انزوائهم بعيداً عن كل ما يمكن أن يشير إلى وجود جو ثقافي صحي وصحيح.
_________
مجلة صوت الوطن آب 1991 / العدد 24 / السنة الثانية






الأحد، 16 أكتوبر 2016

طقوس للمرأة الشقية



*محمود شقير 

تذهب إلى مبنى الصحيفة كي تنشر إعلاناً عن وفاتها في الصباح التالي، لأن الطفلة التي تبكي في داخلها لا تكف عن البكاء، ولذا فقد قررت أن تقتل نفسها هذا المساء.

تدخل مبنى الصحيفة بوجه من شمع أبيض وعينين من رماد ودخان، يتأملها شرطي الحراسة الذي لم يشرب قهوته هذا الصباح، لأن زوجته لم تشأ وهي مسترخية في فراشها، أن تدله على المكان الذي خبأت فيه علبة البن.

يتأملها مأمور الهاتف الذي قال في سره إنه لم ير امرأة من قبل تدرج على الأرض مثل طير الحمام. يتأملها مصحح الجريدة الذي جحظت عيناه من خلف نظارته الطبية، وهو يتأكد للمرة الأولى في حياته أن الذي يقرأه ليس مثل الذي يراه.

تغيب المرأة في غرفة موظف الإعلان دقائق معدودات، ثم تخرج لترى عند باب المبنى: شرطي الحراسة، مأمور الهاتف، ومصحح الجريدة يعلنون بصوت واحد، أن المرأة بطلعتها الجميلة جعلت صباحهم لذيذاً كأنه حب الدراق.

تبكي المرأة من بهجة داهمة، ثم تعود إلى موظف الإعلان، تلغي كل شيء اتفقت معه عليه، ومن خلفها يصغي بدهشة شرطي الحراسة، مصحح الجريدة، مأمور الهاتف، وملاك الموت الذي أطل برأسه خلسة من مكان ما في غرفة موظف الإعلان.



الخميس، 13 أكتوبر 2016

عن الانتفاضة والأدب


 *محمود شقير 

كثيرة هي الأسئلة التي تثيرها الانتفاضة في حقل الإبداع الأدبي، وليس يضيرها –أي الانتفاضة- ألا تكون الإجابات عن هذه الأسئلة قد اكتملت حتى الآن، لان فعلا ثوريا شاملا كالانتفاضة، يحتاج الى وقت غير قليل، كي يتمثله المبدعون لتحقيق إبداع يتساوق مع شمولية هذا الفعل واتساع مداه.

غير أن استمرار الانتفاضة طوال السنوات الثلاث الماضية، قد أعاد التوازن والاتزان الى ساحة الإبداع الأدبي، فقذف بعيدا بكل صيحات الحماسة المرتجلة، التي تبدت في شكل قصائد مزبدة مرغية. وفيها إتكاء فظ على الانتفاضة وأدواتها، دون أن يكون فيها –مع الأسف- سوى القليل القليل من رونق الفن وإشراقة الإبداع. لقد أدى استمرار الانتفاضة الى تأبيها –أي الانتفاضة- على أغراض الشعر المألوفة وعلى شعر المناسبات، وأدى بالكتاب والشعراء الى إعادة النظر في موقفهم منها، فلا يتعجلون في الكتابة عنها ولها.

ولان الانتفاضة تتويج نوعي لكل ما سبقها من نضالات وطنية فلسطينية، ولأنها قد أصبحت نمط حياة يمارسه الناس في الداخل، فلا بد من ان تخلق الانتفاضة أنماطا جديدة من التعبير الأدبي، تتجمع خيوطها الآن في نتاجات المبدعين، ومن واجب النقاد أن يعكفوا عليها مليًّا لاستخلاص ما فيها من جديد، أو ما يرهص بالجديد على نحو من الأنحاء.

غير أن ثمة إشكاليات تثيرها قضية التعبير الأدبي عن الانتفاضة. فبعض الكتاب يمعنون في استحضار اليومي والآني في كتاباتهم، ويتكئون أكثر مما ينبغي على مشروعية القضية الفلسطينية، فتخرج كتاباتهم وكأنها بيانات سياسية أو ريبورتاجات صحفية دونما زيادة أو نقصان. وبعض الكتاب – وخصوصا الشعراء- يبتعدون عن اليومي، وعن لغة الناس، فيصوغون بلغتهم الخاصة – وهم على حق في ذلك- ما هو جوهري في الانتفاضة وإنساني متعدد الأبعاد، ليجدوا أنفسهم مع الوقت وقد تباعدوا عن الناس، لصعوبة التواصل مع أشعارهم، وتلك قضية ينبغي أن يتوفر لها المزيد من حرص النقاد ومن نباهة القراء.

وثمة إشكالية أخرى، تواجه كتاب القصة والرواية أكثر مما تواجه الشعراء، وهي الكتابة عن الانتفاضة من خارج ارض الانتفاضة، فالنماذج القصصية والروائية التي حاولت أن تعبر عن الانتفاضة من خارجها قد جاءت مفتقرة الى حرارة التجربة والى التفاصيل الحسية التي تتجسد من خلالها البيئة والنكهة الحقيقية للشخوص وللمكان. والسؤال: لماذا لا يختار القاصون والروائيون الذين لم يعيشوا في الأرض الفلسطينية المحتلة زوايا الرؤية التي تناسبهم دون افتعال. كأن يكتبوا عما له صلة بالانتفاضة مما يعايشونه فعلا، وكأن يكتبوا عن انعكاسات الانتفاضة على الناس أينما كانوا، مثلما فعل القاص السوري حسن م. يوسف في إحدى قصصه القصيرة مؤخرًا، ومثلما فعل الشاعر إبراهيم نصر الله في روايته الجديد (عو..) حين وردت الانتفاضة في نسيج الرواية دون استطراد, فلم يتوغل في تفاصيلها، ولم ينصرف عن متابعة الموضوع الرئيسي للرواية وهو قمع الجنرال للمثقف العربي، الذي لا بد من فضحه خدمة للانتفاضة نفسها.

وإذا كان الأمر كذلك، فثمة ضرورة للاهتمام بالأدب الوثائقي الذي يسجل كل التفاصيل الحميمة التي يمارسها الناس ضد الاحتلال، لتكون زادا لمن يريد من المبدعين. أو لتبقى هي بحد ذاتها ، شهادة أصيلة على تضحيات الشعب العربي الفلسطيني من اجل الحرية والاستقلال. لقد قرأت عددا من القصص الوثائقية التي جمعها بعض الكتاب في الداخل (جميل السلحوت وآخرون)، غير أن ثمة حاجة لجهد جماعي منظم.

فإذا اضطلع به اتحاد الكتاب الفلسطينيين في الداخل، فسوف يتحقق في هذا الميدان الكثير الكثير. وإننا لمنتظرون.
 _________
*صوت الوطن كانون الأول 1990/ العدد 16 / السنة الثانية



الثلاثاء، 11 أكتوبر 2016

هونغ كونغ مرة أخرى


*محمود شقير


منذ عودتي من زيارة دامت شهراً لهونغ كونغ، وأنا متعلق بالمدينة، مهتم بأخبارها التي أتابعها على الإنترنت، أو أعثر عليها في الصحف.

على الإنترنت، أقرأ عن مدينة مفتوحة لكل الثقافات، وللسياح ورجال الأعمال وللتجارة ورؤوس الأموال التي ترغب في استثمار سريع أو غير سريع. ففي المدينة ثلاثمائة بنك أجنبي تتصرف بمبالغ طائلة من المال وتنجز الكثير من الصفقات. وفيها أحزاب سياسية بعضها مؤيد للحكومة المركزية في الوطن الأم، الصين. وبعضها الآخر مناوئ للاندماج في المجتمع الذي يقوده الحزب الشيوعي الصيني، ويطبق فيه سياسات اقتصادية لا تروق لأعداد غير قليلة من أهل هونغ كونغ الذين تحرروا العام 1997 من استعمار بريطاني دام مائة وستة وخمسين عاماً، وبقي الكثير من آثاره ماثلاً حتى اليوم في المستعمرة المحررة سلمياً، فلم يقم ولاة الأمر فيها بطمس تلك الآثار، ومنها على سبيل المثال، أسماء الشوارع التي ما زال الكثير منها يحمل أسماء شخصيات وأماكن انجليزية، كما أن اتجاه سير السيارات في الشوارع ما زال يسير على النظام البريطاني المعروف.

وأنا هناك، كنت أتساءل بيني وبين نفسي: هل يشعر الصينيون من أهالي هونغ كونغ بالدونية إزاء مستعمريهم الأوروبيين جراء سنوات الاستعمار الطويلة، وما يرافقها في العادة من استعلاء يمارسه السادة الحكام على الأتباع المحكومين؟ وهل يشعرون بالتقصير لأنهم لم يحرروا بلادهم بالنضال وبالتضحيات، وبالصراع المرير مع المستعمر؟ في واحد من حواراتنا العديدة مع أساتذة الجامعة، قالت أستاذة جامعية وهي تعلق على المرونة التي تتعامل بموجبها الصين مع هونغ كونغ وتايوان، إن لدى الصينيين قدرة على الصبر والاحتمال، والتوصل إلى حلول لأعقد القضايا عبر التفاهم والحوار! إنما السؤال: هل يصلح هذا الأمر مع مختلف القضايا الوطنية ومع مختلف أنواع المستعمرين والمحتلين؟

وقد لاحظت أن الغالبية العظمى من أهل هونغ كونغ يحملون أسماء أوروبية. قال لي أستاذ جامعي: بدأ الأمر منذ زمن بعيد وفي المدارس على وجه التحديد، استجابة من أولياء أمور الطلبة لرغبات المدرسين الانجليز، الذين كانوا يجدون صعوبة في التلفظ بالأسماء الصينية، فتحولت هذه الأسماء من سنة إلى أخرى، إلى أسماء أوروبية مع الاحتفاظ بالأسماء الصينية! غير أن اللغة الانجليزية ظلت محصورة في إطار المدارس والجامعات وبعض القطاعات الحكومية، رغم أنها هي واللغة الصينية تعتبران اللغتين الرسميتين للبلاد. أما في الأسواق وفي الحياة اليومية العامة فإن اللغة الصينية هي لغة التخاطب بين الجميع، وثمة نسبة غير قليلة من مواطني هونغ كونغ لا يعرفون اللغة الانجليزية.

وأنا هناك، لاحظت الجدية في العمل وفي التحصيل العلمي والثقافي وفي الأنشطة اليومية المختلفة، بحيث يصح القول إن الصينيين شعب من الناس العمليين الذين يحترمون الوقت والعمل في الآن نفسه، وأهل هونغ كونغ ليسوا استثناء في هذا المجال، رغم سنوات الاستعمار الطويلة التي عاشتها البلاد.

وكنت كل صباح أرى المدينة وهي تنعم بطقسها الرائق المعتدل، وتغتبط في الوقت نفسه بنظامها الحياتي الدقيق، حيث الانضباط سمة بارزة في المدينة، وحيث الأمن مستتب بشكل عام، وذلك لتوفير أفضل الظروف وأكثرها أمناً لرأس المال الوافد إلى المدينة، وكذلك للأعداد الكبيرة جداً من السياح. في المطار، وفي الشوارع وفي المحلات التجارية الكبيرة، وفي الجامعات وعلى مداخل المؤسسات الخاصة والعامة، ترى بكل وضوح، وعلى نحو مبالغ فيه في بعض الأحيان، رجال الشرطة بأسلحتهم الخفيفة، وهم على أتم استعداد للتعامل السريع مع أي فوضى أو اضطراب.

ورغم ذلك، لا يخلو مجتمع هونغ كونغ من بعض المظاهر السلبية التي ترافق أي مجتمع رأسمالي حديث، قائم على التقسيم الطبقي المجحف بين الناس. فالصحف اليومية تزودني دوماً بأخبار متنوعة قادمة من هناك. بالطبع ثمة أخبار عن المظاهرات التي تجري بين الحين والآخر، مرة ضد العولمة فيجري التصدي لها وتفريقها، ومرة أخرى ضد فكرة الاندماج مع الوطن الأم، فيجري التصدي لها وتفريقها أيضاً. وثمة أخبار تتعلق بأزمة الفرد العادي هناك. شخص يائس يرمي نفسه من نافذة بيته في الطابق العشرين لكي يموت ميتة شنيعة بسبب أزمة ما! شخص آخر ينتحر داخل شقته لأنه لم يعد يطيق التعقيدات التي تراكمها هذه الحياة. لصوص محترفون يتنكرون في ملابس رجال الشرطة ثم ينهبون المحلات التجارية في الليل، فيتصدى لهم رجال الشرطة الحقيقيون، ويجري تبادل إطلاق النار بين الفريقين. أصحاب كازينوهات جشعون يستغلون العاملين في الكازينوهات، فيضطرونهم إلى خدمة المقامرين الكثيرين دون توقف، حتى إنهم لا يعطونهم فرصة للذهاب إلى الحمام لقضاء حاجاتهم! وعلاوة على ذلك فثمة من يمارسون الغش والخداع، ومن تضيق بهم سبل العيش فيأخذون ابنهم المقعد الذي لا يستطيع الكلام، إلى ساحة من ساحات المدينة، ثم يتركونه فوق كرسيه المتحرك ويبتعدون، يعثر عليه رجال الشرطة ولا يعرفون من هم أهله الأقربون! ومع هذا وذاك، يستمر صخب الحياة في هونغ كونغ، وتشهد جامعاتها ومراكزها الثقافية ومتاحفها الكثير من مظاهر النشاط الثقافي والفني. 



إن هونغ كونغ حافلة بالمفاجآت المفرحة حيناً، المحزنة في بعض الأحيان، ومع ذلك، يظل لها وللحياة الثقافية والفنية فيها، رونق لا يُنسى ولا يغيب عن البال.

الأحد، 9 أكتوبر 2016

دمعة




*محمود شقير 


تذهب صباحاً إلى قبر أبيها، فلا تفارقها وهي تقف هناك صورة حبيبها، تحدثه عن هموم الجامعة والجسد وغدر بعض الناس، فلا يخرج عن صمته أبداً.

تذهب مساء إلى موعدها مع الفتى الذي اختاره قلبها من دون الفتيان، فلا تفارقها وهي تجلس إلى جواره صورة أبيها الذي كان نبعاً من حنان.

تختلط في رأسها الصور، تنحدر من عينيها – دون أن تدري لماذا – دمعة على هيئة قلب جريح.

الجمعة، 7 أكتوبر 2016

الصين.. ألف رواية في العام



محمود شقير

زيارة الصين تغري بالكثير من الكلام. حطت بنا الطائرة ذات مساء في مطار بكين. وكنا تسعة كتاب. حللنا ضيوفاً على الجامعة المعمدانية في هونغ كونغ، للمشاركة في ورشة دولية للكتابة تستمر شهراً، وكان لا بد من استكمال هذه الورشة في إحدى جامعات بكين. كان الموضوع الرئيس للورشة يتمحور حول فهم العالمين العربي والإسلامي. كنا سبعة كتاب وكاتبات من البلدان العربية والإسلامية، بالإضافة إلى كاتبين صينيين: واحد من تايوان والآخر من الأرض الرئيسة: الصين. 

الصين ابتدعت شعاراً براغماتياً ملائماً للعلاقة بينها وبين هونغ كونغ، بعد رحيل المستعمرين الانجليز وعودة هذه الأخيرة إلى الوطن الأم العام 1997 . الشعار يقول في اختصار مريح: بلد واحد ونظامان. (الشعار نفسه مطروح على تايوان التي ما زالت ترفضه حتى الآن!) هذه البراغماتية التي وطد أسسها الزعيم الصيني الراحل دينغ زهاو بينغ، لم تقتصر على العلاقة مع هونغ كونغ، بل إنها تبدت أول الأمر في التجربة الاقتصادية الجديدة للصين، التجربة التي فتحت بعض مناطق البلاد للاستثمارات الأجنبية الأمريكية وغيرها، وبررت الانفتاح على بلدان العالم قاطبة للتبادل الاقتصادي معها، على أسس من التكافؤ والمساواة. 

لم تعد الصين متحمسة، كما كان الحال في السابق، للدعاية الثورية المبثوثة في الصحف والنشرات والكتب وأجهزة الإعلام، أو عبر تقديم الأسلحة والأموال لحركات وطنية أو اجتماعية في العالم الثالث على وجه التحديد. لم تعد الصين تتدخل في شؤون الدول الأخرى بغض النظر عن طبيعة أنظمتها. ولم تعد ترى في تباينها الفكري والإيديولوجي والسياسي عن الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها من الدول الرأسمالية، سبباً لإشعال الخصومات الإعلامية أو للعودة إلى الحرب الباردة من جديد، ( مع أن أمريكا ما زالت تمارس كلتا الحربين الباردة والساخنة في هذه المنطقة أو تلك من مناطق العالم المختلفة) فلا وجود اليوم في أجهزة الإعلام الصينية، (في حدود ما أعرف) لبرامج موجهة للتحريض ضد الخصوم الطبقيين، أو لإشعال نار الثورة الدائمة، تمهيداً لانتصار الاشتراكية التي ما زالت تتمسك بها الصين، على الرغم من التزامها على نطاق واسع بسياسة السوق الحرة في عدد من مدنها الكبيرة المهمة، بعد أن أطلقت عليها اسم اشتراكية السوق.

الصين اليوم تلتزم المنافسة الحرة بين التجارب الاقتصادية المتنوعة، وكذلك بين الأفكار المختلفة والثقافات. كما تلتزم في الوقت نفسه بالمحافظة على السلام العالمي والصداقة بين الشعوب، وهي في هذا الإطار تؤيد بالوسائل السلمية نضال الشعوب من أجل تحررها، (يحظى الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة باهتمام ملحوظ من جانب السياسة الخارجية الرسمية للدولة الصينية).

والصين اليوم منفتحة إلى حد كبير على ثقافات الشعوب الأخرى. والمثقفون الصينيون لديهم اطلاع جيد على الثقافة الغربية، ويتأثر الكتاب الشباب منهم بموجات الكتابة الرائجة في الغرب، خصوصاً تلك التي تندرج في إطار ما بعد الحداثة، والكتابة عن الجنس على وجه الخصوص. قالت لنا إحدى الكاتبات لدى زيارة قمنا بها إلى مقر اتحاد الكتاب الصينيين في بكين: لدى جيل الشباب رغبة عارمة في كتابة روايات يطغى فيها الجنس على كل شيء سواه. قالت: تصدر في الصين ألف رواية جديدة كل عام. وثمة اهتمام كبير بالقراءة وبالكتب لدى الشعب الصيني صاحب الثقافة العريقة.

وأنا هناك في هونغ كونغ، قرأت رواية لكاتبة صينية تقيم في لندن. هذه الكاتبة غادرت بكين بعد أحداث ساحة تيان آن مين (بوابة السلام السماوية) الشهيرة العام 1989 ، وتم احتضانها في الغرب مثلما تم احتضان غيرها من الكاتبات والكتاب الصينيين الذين غادروا وطنهم، لأغراض الدعاية المعادية للصين ولنظامها الاجتماعي. بعض هؤلاء الكتاب، لديهم مواهب حقيقية تبرر شهرتهم، وبعضهم لا يمتلكون هذه المواهب، وليس لديهم من مزايا سوى أنهم جزء من آلة الدعاية الغربية، التي تتخذ من الغياب النسبي للديموقراطية في المجتمع الصيني، سبباً للتحامل على الصين وعلى نظامها الذي لا يخلو بطبيعة الحال من نواقص وأخطاء.

الكاتبة اسمها هونغ ينغ، واسم روايتها "صيف الخيانة" تتحدث فيها عما وقع في ساحة تيان آن مين، ثم تجعل للجنس المكشوف حضوره الملموس في الرواية، حتى إن الرواية تنتهي في اللحظة التي تعتقل فيها بطلتها، وهي منغمسة في حفلة جنس جماعي في منزل من منازل بكين. 

وأنا في هونغ كونغ أيضاً، استلفت نظري شعار لطالما رددته محطات التلفزة الصينية، مفاده أن الصين تتغير وأنها تغير معها العالم. والسياق العام لبرامج التلفزة هذه، يوحي بأن التغيير يتم في ضوء هذه المباراة السلمية في الاقتصاد والفكر والفن والثقافة، وهو أمر مثير للتفاؤل وللارتياح حيث إن ثمة أفقاً للخروج من الطريق الذي يبدو مسدوداً للوهلة الأولى، بعد كل الغطرسة التي يتغطرسها الأمريكان.

مع ذلك، فثمة كثيرون في الغرب، وبالذات في مراكز صنع القرار، ينتظرون اللحظة المناسبة لتفكيك الصين، وهم يراهنون على قناعتهم بأن الرأسمالية بدأت انتشارها الحثيث في الصين، انتشاراً وافداً مع مطاعم المكدونالدز ومع البيبسي كولا والهامبرغر والثقافة الاستهلاكية، ورؤوس الأموال والشركات. الصراع السلمي هناك مستمر تحت السطح وعلى المكشوف أيضاً، ولعل الأكثر اقتراباً من منطق الحياة ومن خدمة المصالح الحقيقية للناس، ومن ضرورات الحاضر والمستقبل، هو الذي سوف يفوز في نهاية المطاف. ويبدو من متابعة مجريات هذا الصراع، أن التجربة الصينية الراهنة ما زالت حتى الآن قابلة لأكثر من احتمال.

في هونغ كونغ، أثناء حفل افتتاح ورشة الكتابة الدولية، نقل الدكتور باتريك هو، أحد المسؤولين البارزين هناك، المسألة كلها إلى أفق حضاري جديد، وهو يستعين بالتاريخ مستذكراً طريق الحرير الأولى والثانية، اللتين كرستا التبادل التجاري والثقافي بين الصين والعديد من الأمم في أزمنة سابقة، ومبشراً بطريق الحرير الثالثة، الممتدة نحو العالم كله، المعتمدة على إبداعات العقول البشرية هذه المرة، لا لتأسيس امبراطورية القوة، وإنما لتوسيع امبراطورية العقول. 

إن تثمير إبداعات العقول لما فيه خير البشرية جمعاء، يشكل الأفق الذي لا بد منه إذا ما أردنا أن نربح أنفسنا ونربح العالم.

صحيفة الرأي/ عمّان 2006 


الخميس، 6 أكتوبر 2016

شحاذ






*محمود شقير 


عبّأ خوابيه كلها بالقمح الذي جاءه من حقول العالم الفسيحة، جاب مدن الشعوب المتأنقة التي التقى فيها أجمل النساء، اللواتي أبقى لديهن ذكريات، لا يعنيه كثيراً إذا احتفظن بها بعض الوقت، أو بعثرنها من الشرفات الوديعة حالما ابتعد.


قرأ الوقت من أول الفجر حتى قرار الرحيل المتئد، الآن لماذا لا يشعل النار في خوابيه المليئة؟ لماذا لا يمحو كل ثروة الوقت القتيل؟ ذلك الرجل الشقي الذي التقى فجأة تلك المرأة المشاكسة، التي لم تناوله قلبها الدافىء مثل رغيف، حينما تسمّر على بابها، يستجدي مثل شحاذ وقح جاء يهذي قبل انبلاج الصبح بوقت طويل.

الثلاثاء، 4 أكتوبر 2016

نحن.. وثقافة الخوف



*محمود شقير 



تترسب في أعماقنا ثقافة الخوف، ويمتد تأثيرها السلبي طوال سنوات العمر، بدءاً من الطفولة مروراً بعهد الشباب والكهولة وانتهاء بمرحلة أرذل العمر.

يخاف الطفل في بلادنا من العتمة ومن قذائف المحتلين، ومن قبضات الجنود الذين يقرعون أبواب البيوت ليلاً لاعتقال الأب أو الأخ الكبير، ويخاف من عصا المعلم ومن قسوة الأب. يخاف من اللصوص الذين يتسللون إلى داخل البيت تحت جنح الظلام.

يخاف الشاب في بلادنا من الرسوب في الامتحان، ومن عدم القدرة على التكيف مع المجتمع، يخاف من الأفكار الجديدة ويتمسك بما ورثه عن الآباء والأجداد من عادات وتقاليد دون تدقيق أو تمحيص. يخاف من الذهاب بعيداً عن البيت كي لا تصدمه الحياة بأشياء لم تكن في البال. يخاف على مستقبله، يخاف من الأخطاء التي قد يرتكبها لقلة الخبرة وضعف الممارسة، وكثرة ما ينوء به المجتمع من مغريات خبيثة تقود إلى الابتعاد عن طريق الرشاد.

يخاف الرجل في بلادنا من عدم القدرة على تأمين لقمة العيش الكريم لأطفاله ولزوجته، يخاف على أطفاله من شرور المجتمع، يخاف على عرضه من التعرض للأذى، يخاف على بيته من الهدم الذي تمارسه جرافات الاحتلال وقذائفه التي ترسلها الطائرات أو الدبابات. يخاف على أرضه من المصادرة أو التسرب من يديه وبيعها دون علمه لواحدة من شركات العقار اليهودية المشجعة للاستيطان. يخاف من الاعتقال أو من الاغتيال بالصدفة أو على نحو مقصود. يخاف أن تزل يده فيقتل أحد أبناء عمومته أو أحد أبناء الجيران في شجار عائلي مفاجئ، أو يقتله أحد أبناء عمومته أو أحد أبناء الجيران في شجار.

تخاف المرأة في بلادنا من مجتمع مليء بالخفايا والمفاجآت. تخاف من إخراج أهلها لها من المدرسة أو من عدم موافقتهم على التحاقها بالجامعة. تخاف من تلكؤ العريس في القدوم إليها في الوقت المناسب فتصبح عانساً وهي في عز الشباب. تخاف على شرفها من الانخداش لأتفه الأسباب، لأنه شرف بناه المجتمع رغماً عنها، على تصورات هشة مثل زجاج ينكسر مرة ولا يعود قادراً على العودة إلى وضعه الصحيح. تخاف المرأة من طلاق زوجها لها أو من زواجه عليها مرة أخرى أو مرات. تخاف على أطفالها وعلى زوجها من شرور قد تأتي ذات صباح، تخاف عليهم إذا شاركوا في المظاهرات، أو إذا وقع انفجار هنا أو هناك. تخاف من اتهام إحدى الجارات لبناتها بأنهن بائرات. تخاف من الذهاب بعد الموت مباشرة إلى النار، لأنها لا تستطيع منع نفسها من استغابة الناس كلما ضمها مجلس للجارات.

يخاف الرجل العجوز في بلادنا من المرض ومن الموت. يخاف على الأولاد والأحفاد والحفيدات. يخاف على العرض والأرض والبيت. يخاف من تفرق الأحباب وتشتتهم في أرجاء المعمورة بحثاً عن الرزق الحلال. يخاف من قدوم الموت وهو وحيد لا يجد من ينقط قطرة الماء في حلقه في لحظاته الأخيرة، ولا يجد من ينقله معززاً مكرماً إلى مثواه الأخير. يخاف على البلاد من هذا البلاء الأسود، من هذا الاحتلال الاستيطاني الذي يجتاح البلاد ويذل العباد. 

الخوف في بلادنا هو المرافق اللدود الذي يصحبنا في رحلة الحياة من لحظة الميلاد إلى لحظة الوفاة. وهو سمة من سمات المجتمع المتخلف الذي يفتقر إلى الشفافية والحراك الاجتماعي الصحيح، وإلى الديموقراطية والانفتاح وجدل الأفكار والآراء الحرة المتصارعة في جو صحي نظيف. الخوف هو نتاج أوضاع اجتماعية وسياسية واقتصادية وثقافية مرتبكة، غائمة الملامح، ملتبسة المواقف والاتجاهات. الخوف هو الناتج الأكيد لمجتمع جمد تطوره الاحتلال وأبقاه عند نقطة الصفر، وتركه نهباً للبؤس المدمر والشقاء. الخوف هو الثمرة المرة التي ما زال يقدمها لنا هذا الاحتلال في الصباح وفي المساء!

ولا أريد أن أنهي كلامي هذا بموعظة مألوفة حول ضرورة التصدي للاحتلال، ليس لأنني خائف، وإنما لخوفي من تحول الكلام إلى بضاعة مبتذلة من كثرة التكرار. 



صحيفة القدس/ القدس 2006

الأحد، 2 أكتوبر 2016

الوقوف في الظلام




*محمود شقير 


إلى خالد في سجن بئر السبع
       يفتح الجندي باب الزنزانة، يعصب عينيه ويقتاده إلى الخارج، هو الآن لا يرى سوى تصوراته عما سيقع بعد قليل.
       تمر ساعة  كأنها دهر كامل: أسئلة، صفعات، دم ينثال من الشفتين، وعصي تنهال على باطن القدمين، أسئلة، أسئلة، ولا جواب.
       يجره الجندي من غرفة التحقيق معصوب العينين، يوثقه إلى جدار ما، ويمضي. تتجمع كل حواسه في أذنيه، ينبعث ضجيج خافت من أماكن قريبة، لم يميز شيئاً، غير أن الضجيج أثار في نفسه توقعات كثيرة.
       ينبح كلب في باحة السجن، ثم يسكت، فكأنما العالم ملك يديه، ينبح متى شاء ويسكت متى شاء، يعود الضجيج الخافت إلى الإعلان عن نفسه مختلطاً هذه المرة بأصوات مبهمة قادمة من مسافات بعيدة، أوحت إليه بوجود قطارات ومدن: إنه الليل قد حل.
       تهمد حركة الحراس في السجن، وتستمر المسافات البعيدة في إرسال أصواتها المكتومة: إنه الليل يتقدم.
       يدركه التعب، تتصلب قدماه، لو أن لديه مهارة اللقلق لأمضى نصف الليل الأول على ساق واحدة، ونصفه الثاني على الساق الأخرى، جرب ذلك بعض الوقت، فلم يفارقه التعب.
       يقترب منه المحقق في اللحظة الحاسمة، يسأله إذا كان لم يتعب بعد، لا يجيبه، يقترح المحقق عالماً من الراحة، ووسائد من ريش النعام مقابل اعتراف أو اعترافين، فلا يجيبه، يصفعه المحقق على وجهه ويمضي.
       الآن، تلح عليه صورة البيت: جلسات المساء الوادعة أمام الدار، تحت سماء بنجوم لا حصر لها، حيث الزوجة والأطفال ورشفات الشاي بالنعناع، ثم يجيئون ذات ليلة ويختطفونه من هناك.
       تململ في القيد: إنهم يغتالون أبسط اللذات، وقرر أن يظل واقفاً.