الجمعة، 30 سبتمبر 2016

نحن وثقافة الحوار






*محمود شقير 



للحوار الجاد منطقه، وله ثقافته التي يجدر بنا الانتباه إليها ونحن نبحث عن مخارج لأزمتنا السياسية الراهنة.

ولأن لدينا نحن الفلسطينيين خبرة لا يستهان بها في حقل الحوار، أحرزناها عبر التجربة الطويلة والتجريب الذي لا ينقطع، وعبر اختبار المواقف رغم ما بينها من تباين وتناقضات، فإن واقع الحال الذي نشهده الآن يشير إلى أن ثقافة الحوار لدينا ما زالت ناقصة منقوصة، وما زالت بحاجة إلى بذل المزيد من الجهود لكي تنضج وتستوي على النحو الصحيح. 

ذلك أن بين حوار الكلمات وحوار الرصاص تقاطعات ونقاط تماس. وفي الحالة الفلسطينية الراهنة، ثمة احتمال لتدهور الحالة وللتحول، من حوار الكلمات إلى حوار الرصاص. يدلل على ذلك تجييش المليشيات المسلحة التابعة لكل من فتح وحماس، والمناوشات التي تحدث بين الحين والآخر ويذهب ضحيتها نفر من أبناء الشعب.

إن احتدام الحوار في الساحة الفلسطينية هذه الأيام، يخرج في حالات كثيرة عن مستوياته المعقولة، ويتحول إلى ضرب من المهاترات وتصيد الأخطاء والسعي لكسب النقاط في صراع مكشوف على السلطة لاستعادتها في أسرع وقت، وهذا هو حال بعض رموز حركة فتح، أو للاحتفاظ بها وفقاً لبرنامج مستند إلى الشعارات أكثر من استناده إلى تحليل الواقع، وهذا هو حال قيادة حماس، بغض النظر عما يحيط بذلك في الحالتين من مخاطر خارجية وأخرى داخلية، تتهدد المشروع الوطني الذي يدعي كل منا وصلاً به، وليس له من غاية في هذه الدنيا سواه.

وحيث إن من المفترض أن يأخذنا الحوار، إلى مزيد من النضج وتبلور الرؤى والسياسات، وإلى ما يعزز قيمنا الوطنية والثقافية والفكرية والسلوكية، فإن واقع الحال الذي نشاهده، يأخذنا في جزء غير قليل منه، إلى حالة من الاحتقان، وإلى التعصب التنظيمي والفئوي، وإلى الإعلاء من شأن البرنامج السياسي الذي يتبناه هذا الفصيل أو ذاك، وعدم الاستعداد للتراجع خطوة واحدة عما كتبه الفصيل في برنامجه قبل سنة أو سنوات، وهذا ينطبق على حماس أكثر من انطباقه على فتح، مع أن المنطق الطبيعي يقول إن البرامج تشيخ، وإن إعادة النظر فيها لتصويبها وتطويرها يعتبر من ألف باء العمل السياسي الرصين.

ويترتب على هذا التعصب بطبيعة الحال، تغليب نزعة الهيمنة والاستئثار على حساب نزعة التسامح والتفاهم وإيجاد القواسم المشتركة، التي تشكل رافعة لنضال موحد، تشارك فيه كل القوى السياسية، من أجل دحر الاحتلال. 

إن أسوأ الآفات التي ما زالت تشوب حواراتنا الراهنة، تتمثل في الكلام المنمق حول الوحدة الوطنية وضرورة الحفاظ عليها، ومن ثم نسيان هذا الكلام في اللحظات الحرجة، والتصرف بما يخالفه ويناقضه، وبما يجعل كلام الحوارات شبيهاً بكلام المجاملات المجانية في المناسبات.

ومن أسوأ الآفات، تلك المناكفات التي تدور على شاشات الفضائيات بين المتحاورين، حيث لا تسهم هذه المناكفات في تقريب وجهات النظر، ولا تساعد على إغناء الحوار، بل إنها تزيده تسطيحاً وتجعله حواراً مفتقراً إلى الجدوى والفاعلية!

ومن هذه الآفات، التعبئة والتحريض اللذان يخفيان وراءهما نزعة شمولية، تستهدف الإساءة للآخر وتسعى إلى تسفيه مواقفه واجتهاداته، تمهيداً لإقصائه من الساحة السياسية أو تحجيمه وتقزيمه في أحسن الحالات، وفي هذا إفقار لتجربتنا الراهنة وحكم عليها بالبوار. 

إن عدم الجدية في البحث عن قواسم سياسية مشتركة مع شركاء المسيرة ومحاولة فرض وجهة نظر وحيدة عليهم، والتمترس خلف وجهة النظر الخاصة بالفصيل وحده، وحشد المؤيدين لها وتعبئتهم من أجلها في شكل محموم، قد يقود إلى مزيد من الاحتقان، وإلى تمترس خلف الحواجز الإسمنتية والسواتر الترابية، لإطلاق حوار من نوع آخر، هو حوار الرصاص! وهو المرفوض رفضاً قاطعاً في حالتنا نحن الفلسطينيين الذين ما زلنا نعاني من جحيم الاحتلال. ولكن هل قولنا إنه مرفوض يكفي لتخليصنا من هذا البلاء الذي يهددنا، إن وقع، بدمار ليس مثله دمار! 



صحيفة القدس/ القدس 2006

الثلاثاء، 27 سبتمبر 2016

جثة




*محمود شقير 


ثلج.. ثلج متراكم في الطرقات وعلى أبواب البيوت. تيبست أطرافه، وأدرك أن أحداً لن يشهد عذابه الأخير.

بعد يومين، تطوع أربعة من الجيران لأداء الواجب، لم يغسلوا جثته، لم يكفنوه، حملوه في بطانية وجدوها فوق جسده المتخشب، ساروا في طريق يغطيه الثلج، إنها تضحية صغيرة، يؤكدها البخار المتدافع من حلوقهم.

وصلوا المقبرة، حاولوا أن يحفروا حفرة، تشنجت أكفهم من لسعات البرد، كفوا عن الحفر، تبادلوا نظرات صامتة، ثم أزمعوا على الدخول في المؤامرة، سجوا الجثة على وجه الأرض وأهالوا فوقها ركاماً من ثلج.


حينما ذاب الثلج، انكشفت الجثة في العراء، فاحت الرائحة، وعاشت القرية دهراً من ندم.





الأحد، 25 سبتمبر 2016

لها وحدها يصحّ الكلام



*محمود شقير

ينعقد اليوم وغدًا في مقر المؤتمر الوطني الشعبي للقدس، مؤتمر مكرّس للمدينة المقدسة تحت شعار: القدس ثقافة وهوية، وسأقول في جلسة الافتتاح:

في مثل هذا اليوم، الثاني من تشرين الأول العام 1187 ميلادية، تم تحرير القدس من حكم الفرنجة الذين حكموا المدينة ثمانية وثمانين عامًا. كانت بلاد المسلمين آنذاك نهبًا للتجزئة وللانقسامات، كما هو حالنا الآن، ما جعل الطامعين فيها يتجرأون على سيادتها وعلى كرامتها الوطنية وكرامة أهلها، إلى أن جاء القائد الكردي صلاح الدين الأيوبي، الذي وحّد البلاد والعباد، واستحثّ العزائم لتحرير المدينة المقدسة من دنس الغزاة.

وها نحن اليوم نقف أمام إحدى سخريات التاريخ الذي يأتي مرة على شكل مأساة، وأخرى على هيئة ملهاة، إذ نلتقي في مؤتمر حول القدس، والقدس تخضع لاحتلال إسرائيلي يستهدف المدينة اليبوسية الكنعانية العربية الفلسطينية بمسلميها ومسيحييها، ليجعلها رغم حقائق التاريخ والجغرافيا، ورغم طبيعتها المكرسة للحب وللتعددية وللسلام، عاصمة أبدية لدولة الاحتلال. وليس ثمة من أبد سوى الحقيقة التي تقول إن هذه المدينة كانت عربية قبل آلاف السنين، وستبقى عربية على امتداد الزمان.

نلتقي الآن، لنحتفي بالقدس من دون الذهاب إلى التاريخ، تاريخها المحتشد بشتى مظاهر الرقي والعمران، مثلما هو محتشد بالمآسي وبالغزوات التي تعرّضت لها، وبعدد الغزاة، فكانت النتيجة أن انتهت الغزوات واندثر الغزاة، وبقيت المدينة التي كانت تضمّد جراحها بعد كل غزوة، وتعيد بناء نفسها لتبقى قادرة على التجدّد والبقاء.

ونلتقي لنحتفي بها من دون الغوص في أبعاد قدسيتها التي جعلتها مستقرًّا للديانات السماوية، تهفو إليها قلوب البشر أينما كانوا، وتتجسد فيها القيم الدالة على الانفتاح والتسامح والعدالة والأمن والأمان.

نلتقي الآن لنحتفي بعلاقة المدينة بالناس، ناسها الحقيقيين الصامدين فيها المضحّين من أجلها، المرتبطين بمصيرها، ولنحتفي بعلاقة الناس بالمدينة التي أسبغت عليهم من روحها، فلا تنفصل سماتهم عن سمات مدينتهم التي عاشت معهم وعاشوا معها مختلف أنواع المعاناة، وتجرّعت مثلما تجرعوا صنوف العسف التي جربها عليها وعليهم الغزاة، فلم تهن ولم يهنوا، وظلوا ثابتين على ولائهم لمدينتهم مثلما ظلت وفية لهم مثل أمّ رؤوم.

ذلك أن المدينة ليست مجرد حجارة وأسوار وأزقّة وشوارع وأسواق، وهي ليست مجرّد مساجد وكنائس مكرسة للعبادة وللوصل بين الأرض والسماء، بل هي قبل ذلك وبعده مكان لتفاعل ناسها معها ولتفاعلها معهم، بكل ما تمثله من حضارة ومقدسات وتاريخ وجغرافيا ومكانة وحضور، وبما تمثله من مركز للحداثة وللتنوير كما كان حالها في النصف الأول من القرن العشرين، ومن حيز لانتشار التزمت وقيم الريف المحافظة فيها كما هو حالها الآن. إنها المدينة التي تعرّف بمواطنيها، وهي التي يعرّف مواطنوها بها في كل مرحلة من مراحل الهبوط أو الصعود. إنها مدينة مواطنيها الباقين هناك وحدهم أمام العزل والحصار والقمع والتهجير، وهي الباقية وحدها هناك أمام هجمة الأسرلة والتهويد إلى حين.

نلتقي لنحتفي بالمدينة في ذكرى تحريرها على يد صلاح الدين، ولنصغي على امتداد هذا اليوم واليوم الذي يليه، لأوراق فكرية حول حضور المدينة في حياة الناس، وحضور الناس في حياة المدينة، ولنستمع لشهادات أدبية عن علاقة بعض كتابنا وكاتباتنا بالقدس وعلاقتها بهم، ولنستمع أيضاً لقراءات شعرية عن القدس، وعما تشتمل عليه القدس من قيم نبيلة ومن فضاءات، ولنسعد بجوائز القدس التي ستمنح لثلاثة ممن حملوا وما زالوا يحملون رايات الدفاع عن القدس.

الحياة الجديدة/ البيرة 2013 





الخميس، 22 سبتمبر 2016

القدس في النصوص الإبداعية



*محمود شقير



هذه الأيام، ثمة مراسلات بيني وبين الناقد الأستاذ الدكتور محمد عبيد الله حول القصص التي كتبتها عن القدس، وكذلك حول القصص القصيرة جدًّا التي نشرتها في ستة كتب. ولقد أعجبني وصف الصديق الناقد لأحدها وهو "احتمالات طفيفة"، بأنه كتاب قصصي وليس مجموعة قصصية، بالنظر إلى أن قصصه يكمل بعضها بعضًا. 

وقد سألني: صوّرت القدس في بعض القصص من منظور قروي بحت، أي عبر منظور القرويين الذين يزورونها للصلاة أو للتبضع، ولم تصور أو تقدم شخصيات من القدس نفسها في تلك المرحلة غير شخصيات هامشية أو باهتة إلى جوار الشخصية القروية المتسيدة، ألم تفكر آنذاك بتصوير القدس من داخلها وتقديم بعض شخصياتها الأساسية بعيداً عن المنظور القروي؟
أجبته: أعتقد أن نشأتي القروية مسؤولة عن هذا المنحى الذي أشرت إليه. كانت القرية متغلغلة في خلايا جسدي، أما المدينة فلم أعشها بعمق. كنت آتيها نهاراً وأغادرها قبل غياب الشمس. لم تكن لي علاقة معايشة داخلية لتفاصيلها لكي أكتب عن شخوصها باستفاضة. وقد كتبت ذات مرّة قصة بعنوان "فتاة الصالة" عن نادلة في مقهى بالقدس، ولم أنشرها لأنها لم تعجبني. وكتبت قصة عن استشهاد رجاء أبو عماشة في القدس، ولم أنشرها كذلك للسبب نفسه. 

ثم إنني كنت متأثراً بتلك النزعة الرومانسية التي سادت في بعض نماذج من الأدب المصري في النصف الثاني من خمسينيات القرن العشرين وبدايات الستينيات، نزعة العودة إلى الريف هرباً من جور المدينة وضجيجها، (وأعتقد أن هذه النزعة كانت بتأثير من بعض المدارس الأدبية الأوروبية). وقد كنت مبالغاً في موقفي. فالقدس لم تكن في ضخامة القاهرة لكي أتذمر من ضجيجها أو من جورها.

وحين انتميت إلى اليسار طبّقت بعض مفاهيمه النظرية بشكل متعسف على الواقع الذي أعيشه. نظرت إلى القرية باعتبارها المكان الذي يعيش فيه الفلاحون الفقراء والعمال الكادحون، فانتصرت لها على المدينة التي رأيت فيها المكان الذي يستقرّ فيه البورجوازيون المستغلِّون، وقد عبرت عن ذلك في قصة "والنار ذات الوقود"، وقصة "خبز الآخرين" على سبيل المثال.

وبعد هزيمة حزيران 1967 اتسعت نظرتي إلى الحياة والمجتمع بتأثير قراءاتي المتنوعة، وبالاستفادة من التجربة الملموسة، حيث امتزج الطبقي بالوطني في نظرتي إلى القدس. وانتبهت إلى حقيقة أن في المدينة عمالا وحرفيين، لهم إلى جانب دفاعهم عن حقوقهم الاقتصادية انتماء وطني يدفعهم إلى التضحية بأرواحهم حين تتعرّض مدينتهم للاحتلال.

وحين عدت من المنفى القسري الذي دام ثماني عشرة سنة، وجدت قريتي قد أصبحت حياً من أحياء القدس. هنا امتزج القروي بالمدني في قصصي اللاحقة، وإنْ ظل الطابع القروي وبالذات في ما يتعلق بلغة الحوار في القصة القصيرة هو الأكثر بروزاً. وظهرت المجموعتان الساخرتان: صورة شاكيرا، وابنة خالتي كوندوليزا ضمن هذا السياق، وأصبح المكان الذي تدور فيه الأحداث هو الحي أو الحارة المقدسية.

ومن غير شك، فإن إحساسي بالقرية قد ضعف في السنوات العشرين الأخيرة، سواء لجهة المعايشة أم على صعيد الكتابة، ربما لأنني عشت في بيروت، وعمان، وبراغ، وزرت في العقود الأربعة الماضية مدنًا كثيرة. وربما لأن قريتي أصبحت حيًّا سكنيًّا ببعض مواصفات مدنية، ولأنني منذ عدت من المنفى أُكثرُ من التجوال في أسواق القدس وشوارعها، وأقضي أوقاتًا غير قليلة في مقاهيها ومطاعمها ومنتدياتها الثقافية. وكان من نتيجة ذلك كله كتابي "ظل آخر للمدينة"، وفيه وصف للقدس وسيرة لها. ثم جاء بعده كتابان مكرّسان لها، وفيهما غوص في تفاصيلها الداخلية، هما: القدس وحدها هناك، و مدينة الخسارات والرغبة.

______



الحياة الجديدة/ البيرة 2013

الثلاثاء، 20 سبتمبر 2016

ضد المناهج الإسرائيلية في القدس



*محمود شقير



تحاول سلطات الاحتلال الإسرائيلي من جديد تطبيق المناهج الإسرائيلية في مدارس القدس العربية المحتلة، باعتبار ذلك جزءًا ضروريًّا مكمّلا لخطة تهويد المدينة المقدسة التي تجري على قدم وساق في وقتنا الراهن.

وبالطبع، فإن هذا يعني الالتفاف على النضالات التي خاضها المعلمون والطلبة والمواطنون والقوى الوطنية الفلسطينية ضد فرض هذه المناهج منذ الأسابيع الأولى لهزيمة حزيران 1967. آنذاك، كانت المناهج المطبقة في مدارس الضفة الغربية بما فيها القدس عرضة للإلغاء وللاستعاضة عنها بمناهج تتساوق مع الأطماع الإسرائيلية في طمس هويتنا الوطنية وضم القدس إلى إسرائيل. وحين أخفقت هذه الخطة اكتفت سلطات الاحتلال بفرض المناهج الإسرائيلية إلى جانب المناهج العربية في مدارس القدس، ثم لم تلبث هذه المناهج الإسرائيلية أن جوبهت بمقاطعة شاملة، فلم يتمكن المحتلون من الاستمرار في فرضها على الطلبة. 

وفي الوقت نفسه لم يتورعوا عن العبث بالمناهج المطبقة في مدارس الضفة الغربية، إذ قاموا بحذف كل ما له علاقة بالوطن وبالمدن الفلسطينية وراء الخط الأخضر، وبما يشير إلى أن فلسطين أرض عربية محتلة. وذهب بهم الصلف حدّ حذف بيتين من الشعر في أحد الكتب المدرسية، لابن الرومي الذي عاش في العصر العباسي، يقول فيهما:

ولي وطن آليت ألا أبيعه/ وألا أرى غيري له الدهرَ مالكا

وحبّبَ أوطانَ الرجال إليهمو/ مآربُ قضّاها الشبابُ هنالكا 

الآن، وبعد سنوات من تثبيت المناهج العربية في القدس تحاول سلطات الاحتلال الالتفاف على الوضع لإعادة المناهج الإسرائيلية إلى المدينة، علماً بأن الحالة التعليمية في القدس لا تسر البال، فثمة إهمال متعمّد من بلدية الاحتلال للمدارس العربية، حيث النقص الفادح في الغرف الصفية وفي أعداد المعلمين، وحيث التدني في مستوى التعليم في المدارس، وفي مراقبة الطلبة أثناء تحصيلهم العلمي، كل ذلك من أجل إضعاف انتمائهم الوطني وصرفهم عن التعلم الجاد والتسبّب في تسربهم من المدارس، ومغادرتها إلى سوق العمل الإسرائيلي. 

ومن دون مواربة، فإن موافقة خمس مدارس مقدسية على تدريس المناهج الإسرائيلية لبعض الصفوف فيها، تعتبر ظاهرة مرفوضة،وهي تنقض نضالا طويلا خاضه الفلسطينيون ضذ فرض المناهج الإسرائيلية في القدس، وضد إلغاء المناهج الدراسية العربية.

ويبدو أن تضليلاً لإدارات المدارس الخمس تمت ممارسته، أو لربما كانت هناك دوافع فردية وإغراءات وراء الموافقة التي أبدتها هذه الإدارات، رغم ما تعنيه هذه الموافقة من خروج على الإجماع الوطني الفلسطيني، ومن تعريض القدس لمزيد من مخاطر التهويد، الأمر الذي يتطلب توجيه ضغوط شعبية على الإدارات المعنية للتراجع عن تدريس المناهج الإسرائيلية، ولوقف هذا الانصياع الطوعي لإرادة المحتلين، ولضمان ألا تتوسّع هذه الظاهرة لتشمل مدارس مقدسية أخرى. ولا بدّ من حملة توعية وطنية في صفوف الطلبة وأهاليهم لرفض المناهج الإسرائيلية.

وفي هذا السياق، يجدر التنويه بالموقف الذي اتخذه سمير جبريل مدير مكتب التربية والتعليم في القدس العربية، فقد حثّ ذوي الطلبة الخاضعين للمناهج الإسرائيلية على نقل أبنائهم من هذه المدارس، وأبدى استعداده لاستيعابهم في المدارس التابعة لمكتبه، وأشار إلى أن هذا المكتب يشرف على إحدى وأربعين مدرسة، ولديه قدرة على استيعاب الطلبة الذين لا يجدون أماكن لهم في المدارس التي تشرف عليها بلدية الاحتلال. 

ولا شك في أن هذا جهد إيجابي من شأنه أن يسهم في التصدي ولو جزئياً لمخططات المحتلين، إلا أنه لا يعفي السلطة الوطنية الفلسطينية من النهوض بمسؤولياتها للتحرك على مختلف الأصعدة، من خلال اليونسكو وغيرها من الهيئات الدولية، لوقف هذا العبث بحاضر مدينة القدس وبمستقبلها، وبمستقبل التعليم الوطني في مدارسها.

_______

الحياة الجديدة/ البيرة 2013



الاثنين، 19 سبتمبر 2016

ألا ليت الفلسفة تعود



*محمود شقير


قرأت قبل أيام خبرًا في إحدى صحفنا المحلية مفاده أن مركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان، "أطلق حملة لإعادة طرح مادة الفلسفة في المنهاج المدرسي في فلسطين. وأوضح المركز في بيان صحفي أن الحملة تأتي من منطلق أن مساق الفلسفة سيساعد في فتح مدارك الطلبة في طرائق التفكير والحكم على الأمور بعقل منفتح بعيدًا عن القوالب الفكرية الجاهزة. وقال البيان: إن إعادة الاعتبار لهذه المادة الأساسية يخدم تدعيم ثقافة التنوع والاختلاف وقبول الآخر الفكري والديني والثقافي داخل المجتمع الواحد ويعزز ثقافة التسامح".

وبحق، فإن هذه المبادرة تستحق الإسناد الذي ينبغي أن يقوم به الكتاب والمثقفون ورجال الفكر والتربية في بلادنا، بالنظر إلى أهميتها وضرورتها، خصوصًا ونحن نرى العنف وعدم التسامح والعصبية القبلية التي تطبع بطابعها كثيرًا من مظاهر سلوكنا وتصرفاتنا، وبالنظر إلى ضعف حالة الجدل الفكري في معاهدنا وجامعاتنا، وكذلك العزوف عن التحصيل الثقافي سواء أكان ذلك في المدارس أم في الجامعات. 

وفي تقديري، أن حذف مادة الفلسفة التي كانت تدرّس في مدارسنا في سنوات سابقة، جاء في سياق الاستخفاف بهذه المادة، وعدم تقدير جدواها على عقول الناشئة من أبنائنا، كما أنه جاء في سياق عدم الاهتمام بتطوير مناهج الدراسة في مدارسنا وفي جامعاتنا على النحو المطلوب.

فرغم الجهود التي بذلها رجال تربية متخصصون في شؤون المناهج المدرسية بعد قيام السلطة الوطنية الفلسطينية، فقد ظلت هذه المناهج أقلّ من المطلوب بكثير، ولم تنجح في مخاطبة العقل باعتماد أساليب الاستقراء والاستنتاج والاستنباط بديلاً من الحفظ والبصم والتلقين والميل إلى حشو الأدمغة بالمعلومات. كذلك، فإنها لم تحدث التوازن المطلوب بين ماضينا الذي ينبغي علينا أن نأخذ أفضل ما فيه، وأن نترك ما لم يعد يتواءم مع منطق العصر والحياة، وبين حاضرنا الذي ينبغي أن نعزّزه بعلوم العصر ومعارفه ورؤاه، التي تستمد جدواها من حاجتنا الملحة للتطوّر ومن تطلعنا نحو مستقبل أفضل. 

وأما ما جنيناه، فهو ما نراه الآن: انفصال بين المدرسة والجامعة من جهة وبين المجتمع واحتياجاته الحقيقية من جهة أخرى، ما أدّى ويؤدّي إلى تخريج أجيال من الشباب ليس لهم من همٍّ، وهم على مقاعد الدراسة، سوى الحفظ للحصول على أعلى العلامات التي تؤهلهم للحصول على شهادات، قد تساعدهم في الحصول على وظائف، تمكّنهم من العيش الكريم. أما أن تكون سنوات الدراسة فرصة لصقل الشخصية ولتطوير ملكة التفكير والابتكار والإبداع، فهي آخر ما يفكر فيه الطلاب في بلادنا، ومناهج الدراسة هي المسؤولة عن ذلك بطبيعة الحال.

إن شطب مادة الفلسفة من المناهج الدراسية في فلسطين يعني حرمان الطالب من معارف كثيرة، من بينها: التراث الفلسفي الإسلامي الذي كان مزدهرًا في زمن سابق، هذا التراث الذي استند من دون انغلاق على التراث الفلسفي اليوناني، الذي تمّ استيعابه وحفظه والإضافة إليه ومن ثم نقله إلى الثقافة الأوروبية في العصور الوسطى، ليكون مرتكزًا لهذه الثقافة للخروج من ظلام تلك العصور. وكانت فلسفة ابن رشد التي نصّت على أنه لا تعارض بين الفلسفة والدين خير شاهد على فضل هذا الفيلسوف المسلم على الفلسفة الأوروبية، إلى حدّ ظهور تيار في الفلسفة الأوروبية أطلق عليه اسم الرشدية نسبة إلى ابن رشد.

إن إعادة الاعتبار لمادة الفلسفة في مدارسنا قد تكون بداية الطريق لإعادة النظر على نحو جذري في المناهج الدراسية التي ينبغي لها أن تكون مواكبة للعصر ولاحتياجات المجتمع، وذلك للإسهام في خلق أجيال جديدة نحن أحوج ما نكون إليها في هذا الزمن الصعب. 
________

الحياة الجديدة/ البيرة 2013



الجمعة، 16 سبتمبر 2016

في ذكرى رحيل السكاكيني





*محمود شقير 


في الثالث عشر من آب الماضي، حلت الذكرى الستون لرحيل المربي الأديب خليل السكاكيني، ابن القدس. رحل السكاكيني بعد النكبة الفلسطينية الكبرى بخمس سنوات، وكان احتلال الجزء الأكبر من فلسطين إلى جانب فجيعته برحيل ابنه سري سببًا من أسباب تكالب الأحزان عليه إلى أن حضرته الوفاة في القاهرة.


كان السكاكيني على صلة بالحركة الوطنية الفلسطينية منذ تأسيسها أوائل القرن العشرين، غير بعيد من أنشطتها واجتهاداتها، غير بعيد كذلك من الجمعيات الإسلامية المسيحية التي تشكلت في القدس وغيرها من المدن الفلسطينية للتصدي للأخطار التي أخذت تتهدد البلاد. لكنه لم يكرس وقته للعمل السياسي اليومي. كانت له آراؤه السياسية ومواقفه الفكرية واجتهاداته في ما يتعلق بواقع البلاد، إلا أنه آثر الذهاب إلى الجهد التأسيسي الذي لا بد منه لكل مجتمع طامح إلى التقدم، ولا بد منه لخلق أجيال متعلمة واعية. 


لذلك، راح يكرس كل جهوده انطلاقًا من المدرسة التي عليها أن تعنى بالتلميذ باعتباره كائنًا إنسانيًا جديرًا بالاحترام، وأن تعزز إحساسه بكرامته، وأن تمكنه من أن يكون له رأيه الحر من دون ضغوط أو إكراهات. ولا تتكرس هذه التربية الحديثة التي استقى خليل السكاكيني تفاصيلها من تجاربه العملية في التدريس، ومن دراساته وأسفاره ومن تحصيله الثقافي، إلا بالتعليم الحديث. 


ومن هذا المنظور، تأسست مدرسة السكاكيني على احترام التلاميذ، ومنعت العقاب البدني الذي يهدر كرامتهم ويمتهن عقولهم، ورفضت المناهج التلقينية التي تبلد الذهن وترهقه، وشجعت المطالعة الحرة وقراءة الكتب والتزود بشتى الأفكار، واصطفاء الأصلح منها، والأكثر قدرة على إغناء العالم الروحي للإنسان. 


ورغم المتاعب التي تتسبب فيها مهنة التعليم، وهو الأمر الذي كان خليل السكاكيني يعبر عنه بين الحين والآخر بأسلوب فكاهي ساخر، فإنه لم يدخر جهدًا لكي ينخرط في هذه المهنة الشريفة، فالتحق بمدارس عدة مدرسًا للغة العربية، ومارس تدريس الدروس الخصوصية لطلاب أجانب وفلسطينيين، وأسس مدرسة ليلية في القدس، قبل تأسيسه للمدرسة الدستورية. وأكثر من التردد على دور العلم والجامعات في هذا البلد العربي أو ذاك، وفي فلسطين كذلك لكي يحاضر في أصول التربية والتعليم، ولكي يبسط رؤيته حول المدرسة الحديثة والمنهاج المدرسي الذي يقترحه بديلاً من المناهج التلقينية القديمة. وقد ألف لهذا الغرض كتابه المدرسي "الجديد في القراءة العربية"، من أربعة أجزاء، ومعها دليلان للمعلم فيهما إرشادات حول كيفية تدريس مواد اللغة العربية، ولم يكتف في كتابه هذا بتعليم الأطفال القراءة والكتابة، بل ضمنه كثيرًا من الأفكار النبيلة التي تغني العقل وتنمي حاسة الجمال وترتقي بالوجدان، من خلال القصص والحكايات والمأثورات التي وردت في الكتاب. 


ولكي تجد اجتهاداته طريقها إلى عقول التلاميذ، ومن أجل استكمال الرسالة التي التزمت بها مدرسته الدستورية التي أسسها أوائل القرن العشرين، فقد أسس في العام 1938 مدرسة النهضة التي تخرج فيها طلاب مجدون كان لكثيرين منهم في ما بعد شأن كبير في شتى مناحي الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.


وبالطبع، فإن ما ذكرته ليس كل شيء عن هذا الرائد من رواد التنوير الفلسطينيين والعرب، بل هو جزء يسير من سيرته الغنية، وهو تذكير بما كان له من حضور بارز في القدس، مدينته التي أحبها وأخلص لها طوال حياته. 

______


الحياة الجديدة/ البيرة 2013

الأربعاء، 14 سبتمبر 2016

حسن مصطفى.. منفعتي تبدأ من تحت قدمي



*محمود شقير

هي جملة ذات مغزى عميق قالها أحد أعلام الفكر التنويري الفلسطيني في القرن العشرين، حينما عرضت عليه منظمة اليونسكو أن يترك قريته الحدودية، ليلتحق بالمجلس الدائم لليونسكو في باريس. يومها، رفض الكاتب الصحافي الإعلامي المثقف حسن مصطفى الوظيفة المرموقة وقال قولته الباقية: "منفعتي تبدأ من تحت قدمي أولاً". وقد أثبت ذلك قولاً وفعلاً حينما ظلّ منزرعًا في قريته "بتير"، ليقدم لها ما يليق بها من خدمات، وليجعل أهلها قادرين على الصمود فيها في زمن تكاثرت فيه اعتداءات الغزاة الصهاينة على قرى الحدود الفلسطينية في خسمينيات القرن العشرين.

كان صديقًا للمربي التنويري خليل السكاكيني، وقد عملا معًا في كلية النهضة التي أسسها السكاكيني في القدس في العام 1938 ، وجعلها مدرسة من طراز خاص، فيها احترام لكرامة التلاميذ، وفيها اعتماد على مناهج حديثة لا تؤمن بالتلقين. 

وكان صديقًا لتنويري آخر هو الدكتور اسحق موسى الحسيني الذي آمن بالحداثة وبضرورة احترام المرأة وعدم تقييدها في البيت. ويبدو أن حسن مصطفى كان مؤمنًا بما يؤمن به صديقه الحسيني في ما يتعلق بحقوق المرأة، فقد ظل يضغط على الجهات التربوية المعنية حتى ظفر بتأسيس مدرسة للبنات في قرية بتير في العام 1950 ، في حين كانت مدارس البنات نادرة تمامًا في قرى الريف الفلسطيني آنذاك. 

ولد حسن مصطفى في العام 1914 وغادر دنيانا في العام 1961 ، ولم يعش سوى سبع وأربعين سنة، لكنه أنجز في هذا العمر القصير إنجازات كثيرة توزعت على العمل في تثبيت الناس في قريته الحدودية، التي صارت بفضله قبلة لزيارات المعنيين بقضايا التطوير الريفي، وفي العمل من أجل حل قضايا اللاجئين الفلسطينيين التي تصدى لها من خلال عمله في وكالة غوث اللاجئين بعد النكبة الفلسطينية الكبرى، ومما يلفت الانتباه في هذا الصدد أن المؤرخ الشهير أرنولد توينبي زاره وحلّ ضيفًا عليه في القرية في العام 1957 . وكان قبل النكبة، قد ترأس اللجنة الثقافية لنادي الاتحاد القروي الذي ضم في عضويته مثقفين فلسطينيين كثيرين، واستلم رئاسة تحرير مجلة النادي التي كان اسمها "المنتدى" ثم أصبح "القافلة". 

وكان إلى ذلك ناشطًا في الكتابة في عدد من الصحف، في طليعتها جريدة "الدفاع" التي ابتدأ نشاطه الكتابي فيها في العام 1935 ، ثم تابع نشاطه في الصحافة وفي العمل الإذاعي، فكتب في صحيفة "الهدف" المقدسية التي كان يرأس تحريرها زميله في نادي الاتحاد القروي يحيى حمودة، وكانت آخر صحيفة داوم على الكتابة فيها هي "فلسطين" التي نشر فيها مئات الخواطر والمقالات. وقد أشار الأديب علي الخليلي إلى ذلك قائلاً: "لقد نشر حسن مئات الخواطر الهامة والأفكار المميزة وهي خواطر وأفكار لم يتضمنها كتاب بعد، ولم تتوفر الفرصة الكاملة لباحث مختص يتابع كل شاردة وواردة من فكر حسن مصطفى بالبحث والتدقيق ".

وقال الأديب الدكتور اسحق موسى الحسيني: "حسن كاتب ساخر يكتب تلميحاً ويبطن أكثر مما يظهر، وأبرز ما فيه تعلقه بأرضه وإحساسه بآلام شعبه، وكان قوي الحجة يحسن مقارعة الخصم ومجادلة الصديق".

قبل أيام، وتحديدًا في الرابع من حزيران الجاري مرّت الذكرى الثانية والخمسون لرحيل حسن مصطفى، ولم ينتبه لذلك سوى قلة ممن يعرفون مكانته وحقيقة الدور الذي نهض به تجاه قريته وأهلها وتجاه بلاده فلسطين وشعبها، وهو لذلك جدير بكل انتباه، وهذا بدوره يطرح علينا ضرورة إغناء الذاكرة الفلسطينية بسير التنويريين الفلسطينيين الذين ظهروا في القرنين التاسع عشر والعشرين، وأدوا أدوارهم بنزاهة واقتدار، ومن حقهم علينا أن نحتفي بهم بما يليق بمكانتهم وبما يخلّد ذكراهم.

الحياة الجديدة/ البيرة 2013



الاثنين، 12 سبتمبر 2016

عدي مدانات... قصص الحبّ والأسى والخسارات





*محمود شقير


للقاص عدي مدانات تجربة ممتدّة في كتابة القصة القصيرة. وهو مخلص لها ومثابر على كتابتها، بحيث تبدو على يديه جنسًا كتابيًا قادرًا على اجتذاب القرّاء في زمن الانترنت والفضائيات وثقافة الصورة، وفي زمن الترويج للرواية باعتبارها الجنس الأدبي الأكثر قبولاً لدى النقّاد والقرّاء سواء بسواء.

ورغم أن عدي مدانات كتب ثلاث روايات خلال مسيرته الأدبية، إلا أن لونه المفضّل في الكتابة هو القصة القصيرة التي يكتبها بشغف، وبمتعة توازي متعته بالحياة التي يغترف منها المادة الخام لقصصه. ولن أجانب الحقيقة إذا قلت إن عدي مدانات يعتبر اليوم من أبرز كتّاب القصة في الأردن وعلى امتداد الوطن العربي.

ولعلّ عدي مدانات أن يكون واحدًا من كتّاب القصة العرب الذين أخلصوا لهذا اللون من الإبداع، ليس فقط لجهة المثابرة على الكتابة ومراكمة المزيد من القصص، وإنما كذلك لجهة الحفاظ على أسلوب خاص في السرد القصصي لا تخالطه البلاغة الزائدة إلا ما ندر، ولا يربكه التجريب العشوائي المنفلت من عقاله دون ضوابط أو معايير. وثمة في قصصه بنية فنية متماسكة مكتوبة بلغة بعيدة من التقعر اللغوي، ولا مجال فيها للثرثرة أو للاستطرادات غير المبررة فنياً، وفيها كذلك ميل مدروس نحو السهولة والبساطة والشفافية التي تضعنا وجهًا لوجه أمام ما يطلق عليه النقّاد: السهل الممتنع في الكتابة القصصية. 

ولعدي مدانات قدرة على كتابة قصة انطلاقًا من مفردات الحياة اليومية العادية، ومن التفاصيل الصغيرة التي يتشكل من مجموعها السرد القصصي، وهو سرد هادئ يعتمد التلميح لا التصريح، يبدو فيه الراوي محايدًا وما هو بمحايد، لأنه يختار للمتلقي ما يريد ببراعة ودون تدخل فظّ أو استعراض ممجوج. ومما يساعد على هدوء السرد في قصصه تلك الجملة الخبرية المبدوءة في الأغلب الأعمّ بالفعل الماضي، لكنه الهدوء المخادع الذي يخفي تحت سطحه توترات نفسية وصخبًا ومشاعر جامحة.

ولعدي مدانات أيضًا قدرة على الاختفاء من فضاء قصته، بسبب ما لديه من خبرة في الكتابة، وحينما لا تأخذ مادة القصة فرصتها للتجسّد على نحو مقنع، ينكشف حضور المؤلف في فضاء القصة، ويتكئ في هذه الحالة على البلاغة الزائدة لسدّ الفراغ الذي لم يسدّه اكتمال حالة الخلق الفني، ويمكن التدليل على ذلك بما ورد في قصة "هاتف السيدة" التي انتهت وهي تبشر بطلة القصة بحياة هانئة لم تكن تشعر بها من قبل: "حينما أعادت السماعة وجدت نفسها تمتطي موجة غبطة عالية وتسبح في محيط من الرغد". (شوارع الروح ص64 )

إن التعاطي مع الحياة باعتبارها قيمة عليا لا ينبغي لنا التفريط بها أو التقليل من شأنها، يشكّل هاجسًا مهمًا من هواجس عدي مدانات. وهو لذلك يسعى باستمرار للقبض على اللحظات الهاربة التي تعكس تجربة ممتعة وقعت في الماضي، لا لتمجيد الماضي أو لتكريسه، وإنما لبعث المتعة من جديد للكائن الإنساني الذي يضجره الحاضر ويحاصره، ولإعلان التمسك بالحياة وبضرورة تكرار لحظات الفرح والغبطة التي لا تستقيم الحياة من دونها.

يلعب الماضي وما يشتمل عليه من ذكريات دورًا بارزًا في العديد من قصص عدي مدانات. وتنبعث الذكريات على نحو مفاجئ بسبب حالة خاصة في الحاضر استدعت انبعاثها. يظهر ذلك على سبيل المثال في قصة "مريول مدرسي"، فالتلميذة التي تمرّر رسالة إلى شاب معجب بها، تحاذر أن يراها أحد. وهي تنقل دون أن تدري العدوى إلى المرأة ذات الثلاثين ربيعًا التي تراقب المشهد من بُعد. وحينما تعود هذه المرأة إلى بيتها تقف أمام المرآة وتتذكّر أيام مراهقتها ويعتريها توتّر نفسي وتبكي.

إن النمو الدرامي في قصص عدي مدانات يعتمد أساسًا على التوترات النفسية التي تنشأ داخل النفس البشرية، وما يترتب على ذلك من سلوكيات متنوعة بحسب مزاج الشخصية وثقافتها ووعيها واستعداداتها. وتكتسب ثيمة العزلة والرغبة في التواصل الإنساني الذي ينقطع لسبب أو لآخر، حيزًا غير قليل في هذه القصص. ففي قصة "ما لم يُقل ذات ظهيرة" يلتقي الموظف المتقاعد امرأة تصغره في السن بعشرين عامًا، جاءت مثله إلى متجر كبير للتسوّق. يتبادل معها أثناء ذلك كلامًا عفويًا نابعًا من وحي اللحظة، ويشعر بارتياح لحديثها ولرقتها وسماحة نفسها، غير أن هذا اللقاء محكوم عليه بأن ينتهي مبقيًا في النفس لوعة وأسى، بسبب انقطاع التواصل بعد أن "دفعت (المرأة) الحساب وخرجت وما كان بوسعه اللحاق بها".

وتعبيرًا عن هذه الثيمة نفسها، ثيمة العزلة الناتجة عن فعل الزمن في الكائن الإنساني حينما يتقدم به العمر ويبتعد عنه أبناؤه، يكتب عدي مدانات قصصًا تكشف عن مدى حاجة الإنسان إلى التواصل الإنساني، وعن مدى الخوف الذي يسيطر عليه جرّاء العزلة وافتقاد الطمأنينة. ففي قصة "المهاتف غريب الشأن" ترتبك المرأة "التي فقدت بزواج آخر الأبناء ذلك الإحساس بالأمن والحماية وصارت تتخوف من كل طارئ"، فقد هاتفها في الفجر شخص غريب وأطلق تهديدًا لزوجها وقال إنه قادم لكي ينفّذ تهديده. وينتقل خوف الزوجة إلى زوجها الذي لم يعد رجلاً قوي البنية بسبب التقدّم في العمر، ظلّ هو وزوجته يراقبان حديقة البيت من وراء زجاج النافذة، ولم يهدأ خوفهما إلا حينما تبدّدت العتمة وأخذ "ضوء الصباح يتوضح أكثر وأكثر" (شوارع الروح ص59 ) وأثناء ذلك وأمام توقّع الخطر يزداد الزوج احتياجًا لزوجته وهي تزداد احتياجًا له. 

تتفاقم عزلة الرجل المهزوم أمام وطأة الزمن، وتظهر على نحو ملحّ في قصة "العيش في الماضي" حيث لا يصدّق أبو صفوان أن زوجته ماتت . يذهب في الصباح إلى صاحب المخبز، صديقه أبي جواد، لكي يعيد له زوجته من بيت أهلها، لأنه يحنّ إليها بعد أن طال الفراق، وهو يشرح لأبي جواد كيف يحلم بأنه يراها في البيت، وهو نادم لأنه أخطأ في حقها ما جعلها تتركه وتعود إلى بيت أهلها. وهو الآن يريد أن يعيدها إلى بيته، ويتمنى على أبي جواد أن يذهب معه لهذه الغاية. وبالطبع يفاجأ أبو جواد من هذا الكلام، لأن أم صفوان ماتت منذ سنوات!

وللفجر دلالته الخاصة في قصص عدي مدانات، فهو أول النهار، وهو بدء يوم جديد، وهو بدء حركة الناس ومبرر يقظتهم ومغادرتهم لبيوتهم. وبين الناس من يبدأ يومه بداية جيدة وبينهم من لا يبدأ يومه بداية جيدة. يظهر ذلك في "الفجر لا يخفي عيوبه" حيث يبني الكاتب قصة متميزة من تفاصيل في غاية البساطة والرهافة، وحيث يستيقظ بطل القصة في الفجر ويخرج إلى الشرفة ولم يكن أمامه "سوى أفق رمادي شفيف وشرفات خالية ونوافذ مغلقة وسكون مطبق"، وحينما تمرّ بخاطره كآبات حياته وخساراتها، يعود إلى سريره ولا يغادره في الوقت المحدد كما هي عادته، ما أغضب زوجته التي كانت منهمكة في تحضير أولادها للذهاب إلى مدارسهم. 

وقد تتعدّد أسباب عدم مغادرة السرير في الصباح تبعًا لشتى الحالات النفسية التي تعتري البشر. ففي قصة "الآنسة روزا" التي تعيش وحيدة بعد أن فاتها قطار الزواج، تبقى الآنسة مضطجعة في سريرها رغم أن هذا اليوم ليس يوم عطلة. وهي تسترجع في ذهنها ما يُروى عن لصّ في المدينة "يراقب المنازل ويختار المنزل الذي يخلو إلا من امرأة واحدة، فيتسلل إليه في وضح النهار غالبًا، ويأخذ مصاغ المرأة الوحيدة على حين غرة ثم يغتصبها" (شوارع الروح ص42 ). وقد يتوقع المتلقي أن الآنسة روزا ستتخذ إجراءات كفيلة بحمايتها من عدوان كهذا، غير أن مسار السرد يأخذه إلى منحى آخر يكشف عما في نفس الآنسة من رغبات جنسية مكبوتة، إلى الحد الذي يجعلها، رغم خوفها، راغبة في قدوم هذا اللص إلى بيتها، وهي لذلك تتلكأ في عدم الذهاب إلى المحل التجاري الذي تبيع فيه الزهور، وتذهب إلى الحمّام لكي تستحم، ثم تتوقّع أنه لو اقتحم بيتها الآن وهي في الحمام، فسوف تخرج من الحمام لكي تعرف ما يدور في بيتها، وسترى اللص الذي "سوف يصل إلى ما يريده شاءت ذلك أم أبت" (شوارع الروح ص45 ). 

تكشف هذه القصة الأخيرة عمّا يمكن أن أسميه المثير الخارجي وأثره على الحالة النفسية لشخوص عدي مدانات. فالكاتب وهو يعرّض شخوصه لهذا المثير ينأى عن التوقعات المألوفة، ويعمد إلى كشف رغبات غير متوقعة داخل الكائن الإنساني، ما يكسب قصصه عمقها وتأثيرها في نفوس القراء.

ففي "حادث عارض"، كان يمكن للقصة أن تظلّ في إطارها العادي الذي لا يكشف جديدًا، لولا أن فتاة اقتربت من الشاب الذي راقب دون اكتراث مشهد اصطدام في الشارع بين سيارتين، وحينما سألته الفتاة عن تفاصيل الحادث، لم يتمكن من تقديم معلومات كافية لها لأنه لم ينتبه أصلاً لذلك، وهو ما جعله يشعر بالندم، ثم يفكّر بأن يحرف الحديث نحو اتجاهات شتى لعله يستبقي الفتاة فترة أطول معه، غير أنه لم يحبّذ ذلك خوفًا من ردّة فعلها. وفي النهاية فإنها تتركه، وهو يحاول أن يتبعها لكنها تركب سيارة أجرة وتبتعد. ولا يبقى له إلا أن يواصل التردّد على المكان الذي التقاها فيه لعله يلتقيها ثانية، غير أنها لا تأتي، وبذا يضعنا الكاتب أمام لحظة هاربة تبدّت للشاب ثم انتهت مخلّفة في نفسه مرارة وأسى.

وفي قصة "صاحبة المنزل العجوز" كان يمكن لحسام الشاب الذي يستأجر غرفة في منزل السيدة العجوز، أن يستمرّ في نفوره منها لولا صورها التي دفعه الفضول إلى التفرّج عليها أثناء غياب السيدة. تلفت الصور انتباهه إلى جمال السيدة في شبابها، وإلى امتلاء حياتها بالمسرّات في زمن مضى، ما يدفعه إلى تغيير موقفه منها وإلى الرغبة في التقرب منها والتواصل معها.

وفي قصة "ثلاثتهم" نجد أنفسنا أمام رجال ثلاثة لا يقلّ عمر الواحد منهم عن الستين عامًا، وهم يلتقون في المتجر الصغير، لكنهم يتجنبون الدخول في أحاديث فيما بينهم، "رغم أن سكون المتجر يحرك الرغبة في تبادل الحديث". وبالطبع، فإن لكلّ واحد من الرجال الثلاثة عالمه الداخلي الذي يضيئه السرد القصصي ويتغلغل في ثناياه، بحيث تبدو الرغبة في التواصل وفي تبادل الحديث ملحّة بالنسبة إلى كل واحد منهم، غير أن ثمة حواجز غير مرئية تحول دون هذا التواصل، ولم تنكسر الحواجز إلا حينما هطل المطر والرجال الثلاثة في المتجر. تنطلق ألسنتهم بالتعليق على المطر، ثم يأخذهم الحديث إلى ما هو أبعد: إلى الذكريات التي استثارها في النفوس المطر.

وفي "اغتسال ضوئي" يتمثّل المثير الخارجي في فتاة جميلة تقف في الليل خلف زجاج نافذة غرفتها المضاءة. يتأملها الفتى الذي كان عائدًا إلى بيته وهو مستاء من نفسه بسبب تصرفاته في المدينة. حينما يراها ويتأمّل جمالها يتطهّر مما يثقل عليه من مشاعر سلبية، ويبدو كمن اغتسل بالضوء وعاد إلى بيته وهو في حال من الغبطة التي لم يجربها من قبل.

تضيء هذه القصة الأخيرة علاقة الشخوص في قصص عدي مدانات بالأمكنة، وهي أفضل مثال على التطابق بين الأمكنة ونفسيات الشخوص، بحيث يصدق عليها ما قاله الناقد د. سليمان الأزرعي في كلمته المنشورة على غلاف المجموعة القصصية "شوارع الروح" : "تتجلى في العديد من أعمال المجموعة جدلية الشخوص بالمكان بشكل عميق، وتكشف عن العلاقة الحميمة ما بين النماذج البشرية و (أمكنتها) المدّخرة في ذاكرة الطفولة".

فالفتى الذي كان مستاء من نفسه اختار أن يبتعد عن الشوارع المستقيمة المضاءة. مشى في شوارع فرعية معتمة ومتعرجة. وحينما تطهّر من مشاعره السلبية "قفز إلى الشارع من جديد. كان الشارع يمتد فسيحًا مستقيمًا محاطًا بالأشجار والمنازل الآهلة بالسكان. رفع جذعه وأسرع الخطو إلى منزله، ناهضًا بهيًّا، مضاءً من الداخل ومغتسلاً بالضوء". (شوارع الروح ص132 )

ولا يعتبر المكان في قصص عدي مدانات مجرّد إطار خارجي يحتوي مادة قصصه، وإنما هو مكوّن أصيل من مكوّنات هذه القصص، يظهر ذلك في قصة "روح المكان" حيث يجري هنا التمسّك بالمكان وعدم التفريط فيه، في حين يحوّله بعض تجار العقارات إلى سلعة، وحيث تضعنا مساومة من أجل شراء بيت قديم أمام كشف خلّاق لدواخل النفس البشرية، ولمدى تعلّقها بالمكان الذي أودعته ذكرياتها وجزءاً من حياتها. ولعلّ التمسك بالمكان يعني من وجه آخر احترام الإنسان لإنسانيته ولذكرياته ولهويّته. وكما قال ميشيل فوكو فإنه: "لا يمكننا فهم الأمكنة باستقلال عن ممارسة الناس".

تتخذ أغلب قصص عدي مدانات من المدينة مكانًا لها، ويتحرك أبطال قصصه في فضاء المدينة، في شوارعها، في مباني مؤسساتها، في أحيائها السكنية، وفي بيوتها الموصوفة من الداخل بما يتطلّبه السرد القصصي من دقة واستبصار. ويتوزّع أبطال القصص على طيف واسع من البشر، نجد بينهم المناضل الشهيد، الموظّف البسيط، الرجل المسنّ المحال على التقاعد، البائع المنتمي إلى فئة ذوي الاحتياجات الخاصة، المرأة العاملة، المرأة الطاعنة في السن التي لم تغادرها الرغبة في العيش، الفتاة والفتى الباحثين عن الحب، الأزواج والزوجات في تجليات شتى تقتضيها الحياة العصرية بكلّ ما فيها من تقلبات واحتمالات. ونجد نساءً ورجالاً لهم همومهم وأشواقهم وتطلعاتهم التي قد تنتهي بلحظة فرح، وقد تنتهي بالفقد وبعدم التحقّق وبانقطاع التواصل الذي يترك في النفس فراغًا مؤلمًا. 

إنها الحياة في تجلّياتها المختلفة، يرصدها عدي مدانات ويقدمها لقرّائه في قصص جميلة مرسومة بالكلمات. 
_______________

جريدة الرأي الأردنية

الجمعة 26 / 2 / 2010 





السبت، 10 سبتمبر 2016

إبراهيم جوهر... المثقف الفلسطيني النزيه




*محمود شقير

من يتعرّف إلى إبراهيم جوهر عن قرب تتأكّد له حقيقة أن هذا الرجل وثقافته صنوان لا يفترقان. بمعنى أن السلوك اليومي لابراهيم جوهر وعلاقاته الطيبة مع الناس، وسعة أفقه وتوخّيه الصدق في ما يصدر عنه من مواقف وأحكام، إنما هو التعبير الحي عن ثقافته التي لا تنفصل عن شخصه وعن طبيعة تعاطيه مع الحياة. وبمعنى أن ثقافة ابراهيم جوهر المبنية على الاجتهاد الخلاق، والابتعاد عن التزمت و الانغلاق، إنما تستمدّ حضورها من حضور الشخص نفسه في الواقع وفي المشهد العام الذي يتحرك من خلاله، وينشط فيه بفاعلية، للتأثير فيه وللذهاب به ومعه نحو ذرى أعلى من دون ادّعاء أوتظاهر أو استعراض.


ويبدو لي أن عوامل شتى تضافرت على تكوين شخصية ابراهيم جوهر على النحو الذي جعل هذا الإنسان النبيل محبوبًا من معارفه وأصدقائه وتلميذاته وتلاميذه ومريديه، وجعله في الوقت نفسه مجبولاً على حب الخير، وعلى تقصي نواقص الأعمال الأدبية ليس من باب النكاية أو تثبيط الهمم، وإنما للارتقاء بمستوى ما يكتبه الأدباء، وبالذات جيل الشابات والشباب. وهو في الوقت نفسه لا يتوانى عن الاحتفاء بكل إنجاز إبداعي جيد، مشيدًا به على النحو الذي يمهّد السبيل لمزيد من الإبداع الجيد الذي نحن في أمسّ الحاجة إليه، وذلك بالنظر إلى ما تتعرّض له بلادنا، والقدس في القلب منها، من إجراءات إسرائيلية احتلالية، تستعين من أجل تزوير المشهد الأصيل لبلادنا ولقدسنا، بالأسطورة وبقوة المدفع والجرّافة، وكذلك بقوة النص الأدبي الذي يحاول استيعاب القدس باعتبارها مدينة لليهود عبر التاريخ.


لقد كان لإبراهيم جوهر حظّ التحدّر من أسرة، تجمّعت لديها عناصر وعي متقدّم، مقارنة بالوعي الذي كان سائدًا في محيط العشيرة التي تنتمي إليها أسرة إبراهيم. ربما كان للمهن التي مارسها بعض أفراد الأسرة علاقة بهذا الوعي. وهو الوعي الذي قاد الأخ الأكبر لإبراهيم إلى التطوّع في أول شبابه للدفاع عن القدس في العام 1948 وإلى العمل مدرّسًا للتلاميذ، ومن ثم إلى دخول ساحة النشاط الحزبي في خمسينيات القرن العشرين، لتحقيق حلم الوحدة العربية والتحرر من الاستعمار وتحرير فلسطين. ولقد تعرّض هذا الأخ الأكبر الذي ترك إشعاعه الأكيد على أفراد أسرته وعلى محيطه الأوسع، للسجن والاضطهاد على أيدي الجلادين، جرّاء انتمائه السياسي. وكان من نتيجة ذلك كله أن عبّر هذا الأخ الأكبر، القائد النقابي محمد جوهر عن تجربته السياسية والنقابية في كتاب من كتب السيرة الذاتية، نشره أوائل تسعينيات القرن العشرين.


وكانت لإبراهيم جوهر نشأته الخاصة التي جعلته مهتمًا بالتحصيل العلمي وبالتفتح على الأدب والسياسة والفكر التقدمي، في زمن كان فيه للفكر التقدمي حضوره المتميز، فكانت لإبراهيم فرص وافرة للتعرّف إلى قادة سياسيين، وللعمل مع بعض هؤلاء القادة في ميادين الصحافة إلى جانب السياسة وتجلياتها اليومية، الأمر الذي انعكس لاحقًا في تجربة ابراهيم العملية في الحياة، حيث الرغبة الملحة في الاستزادة من المعرفة، والميل المشروع إلى مناقشة الفكرة في أبعادها المختلفة، والابتعاد عن التحيز الأعمى الذميم.


ولعلّ ممارسة ابراهيم جوهر لمهنة التدريس في المدرسة وفي الجامعة أن تكون عنصرًا محفّزًا للرغبة الكامنة في نفسه، تلك الرغبة التي تعني التوسّع في مغزى أن يكون المرء معلمًا، فاختار إبراهيم عن قناعة، كما يبدو لي، بأن يكون منشّطًا ثقافيًّا مثابرًا على تلك المهمة النبيلة، قدر اهتمامه بإنجاز إبداعاته السردية في أدب الأطفال، وفي السرد الحكائي الذي يستفيد من أسلوب المقامات في التراث العربي، وكذلك في تكريس جزء غير قليل من كتاباته، لكتابة النقد الأدبي، الذي تعامل وما زال يتعامل مع نصوص أدبية فلسطينية وأخرى عربية وغير عربية.


إن مسحة الجدّ التي تبدو على وجه إبراهيم جوهر، بشعره الأبيض الكثيف وبشاربيه الأبيضين الكثّين، تخفي على نحو بالغ التمويه، مزاجًا انبساطيًّا لرجل ساخر مرح، بعيد عن ضيق الأفق وعن نعرات التعصب والنزق والأنانية. ولأن الإبداع، والنقد الأدبي منه بالذات، يحتاج إلى قلب كبير، فلا غرابة في أن يكون إبراهيم جوهر هو ذلك الناقد الذي لا يجامل ولا يحابي، ويقول صراحة ما يعتقد أنه الصواب. وهو ذلك المثقف النزيه الذي نحن أحوج ما نكون إليه في هذا الزمن الملتبس.


فتحية لإبراهيم جوهر مع تمنياتي له بالصحة وبدوام التألق والعطاء.

_________


*ألقيت هذه الكلمة في ندوة اليوم السابع في القدس بتاريخ 17 / 11 / 2011 يمناسبة تكريم الكاتب ابراهيم جوهر.

الخميس، 8 سبتمبر 2016

إميل حبيبي الباقي في حيفا*





*محمود شقير

الأخوات والأخوة/ أيها الأصدقاء الأعزاء

نلتقي هذا المساء لنحتفي بالباقي في حيفا الذي يتعزّز بقاؤه فيها وفي ضمير شعبه هنا، وهناك في القدس ورام الله وبيت لحم وغزة، وفي بلدان الشتات. وتهفو إلى ذكراه وإلى متشائله والسرايا واخطيّه والسداسية قلوب محبّيه في الوطن الكبير من الماء إلى الماء، وفي مدى العالم الفسيح.

نحتفي بإميل حبيبي هنا في حيفا ونحن على مسافة أيّام قليلة من حلول الذكرى السادسة والأربعين لهزيمة حزيران، تلك الهزيمة التي لم تزل تحيا فينا ونحيا فيها بوصفها النتاج المرّ للنكبة الفلسطينية التي عشنا ذكراها الخامسة والستين قبل أيام معدودات، وهي التي انهار المجتمع الفلسطيني تحت وطأتها، وتعرّضت حيفا مثلما تعرّضت القدس ويافا وغيرهما من المدن الفلسطينية إلى انحسار الحداثة التي كانت تتراكم في فلسطين منذ بدايات القرن العشرين، وظلّت تترعرع وتنمو رغم إجراءات الانتداب البريطاني التعسفية، وتحيّزه لمخططات الحركة الصهيونية التي كانت تسعى إلى الاستيلاء على فلسطين، وتصفية الوجود الفلسطيني فيها بشتى الوسائل والأشكال.


وحين وقعت النكبة المأساة ظلَّ إميل حبيبي مقيمًا في حيفا ولم يغادرها، وظلّت معه جريدة الاتحاد التي كان له مع آخرين من رفاقه دور مشهود فيها طوال سنوات، وكان للاتحاد مع مجلتي الجديد والغد دور مشهود في الدفاع عن الوجود المشروع للبقية الباقية من الشعب الفلسطيني فوق أرض وطنها، وفي الدفاع كذلك عن الثقافة العربية في وجه محاولات الطمس والتذويب والأسرلة والعبث بالهوية الوطنية لشعب مظلوم. وعلى صفحات هذه المطبوعات اليسارية تألّق شعراء وقاصّون ونقّاد ورجال سياسة وفكر وصحافيون، حملوا راية النضال الديمقراطي من أجل الحق في المساواة وضد التمييز القومي، وتحمّلوا العبء كاملاً جرّاء مواقفهم الشجاعة وما استكانوا لترهيب أو ترغيب، وبدا فعلهم الطليعي واضحًا ملموسًا على صفحات التاريخ القريب، فالشكر كلُّ الشكر لهم، ولهم المحبّة والتقدير.


أيها الأصدقاء الأعزاء.

في مناسبة تدشين ميدان إميل حبيبي في حيفا أتوجّه بالشكر للحزب الشيوعي الإسرائيلي والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة لرعايتهما مع دار عربسك للنشر هذا الاحتفال في محيط هذا الميدان، وأنوّه بالدور التاريخي الذي لعبه الحزب بأعضائه اليهود والعرب، في الدفاع عن حقوق الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم، وشاركته في هذه المهمّات النبيلة بعد ذلك وعلى امتداد سنوات غير قليلة وحتى الآن قوى سياسية أخرى في الوسط العربي، وقوى السلام الإسرائيلية التي تسبح على تفاوت في ما بينها ضد التيار، في مجتمع ينحو باستمرار نحو التطرف اليميني والتنكّر للحقوق الثابتة والمشروعة للشعب الفلسطيني في وطنه، والإمعان في محاولات تهويد القدس وشطب حقّ العودة، وتأييد شعارات المستوطنين الرامية إلى الاستيلاء على مزيد من الأرض الفلسطينية التي احتلّت في العام 1967 ، ما يعني تقويض الأسس التي يمكن أن ينهض عليها حلّ الدولتين، وتحويل هذا الحلّ إلى وهم غير قابل للتحقيق.


إن حضور إميل حبيبي في حيفا، هذا الحضور الذي فرضته حركة النضال الديمقراطي اليهودي العربي، وفرضه هو بجهوده الفذّة في حقلي الأدب والسياسة، وفي النضال من أجل السلام العادل، سلام الشعوب بحقّ الشعوب، من شأنه أن يسهم في تحفيز نضال القوى المؤمنة بإحلال السلام في منطقتنا رغم كلّ المناورات والعراقيل والصعوبات التي تعترض هذا النضال، ومن شأنه كذلك أن يبعث إلى حيز التداول على كل صعيد تفاصيل الذاكرة الغنية لمدينة حيفا، التي كانت قبل النكبة الفلسطينية مركزًا حضاريًّا متقدّمًا للثقافة والفن وللصحافة والسياحة وللتجارة والاقتصاد، ولغير ذلك من المظاهر المدنية التي جعلت منها آنذاك عروسًا لبحرها وقبلة لأنظار أفراد لا حصر لهم وشعوب. هذه الذاكرة الخصبة لا يجوز أن يجري تغييبها، وهذا التاريخ النيّر لا يمكن أن يُهال عليه غبار النسيان.


لإميل حبيبي المجد والخلود، ولحيفا العزّة والبقاء.

____________


*نص الكلمة التي ألقيت في حفل تدشين ميدان إميل حبيبي في حيفا بتاريخ 26 / 5 / 2013

الثلاثاء، 6 سبتمبر 2016

التوجهات المعاصرة في الكتابة الفلسطينية ... السير والشهادات واليوميات وعلاقتها بالذاكرة وبالمكان

*محمود شقير

     لعل نظرة على ما أنتجه الكتاب الفلسطينيون والفنانون والعاملون في قطاعات الثقافة المختلفة، من كتب ولوحات فنية وصور فوتوغرافية وأفلام، خلال السنوات الخمس العشرة الماضية، أن تكشف عن نقلة إلى الأمام في اتجاه التعبير عن المكان، كما لو أن ذلك يضعنا أمام الحقيقة التي تقول: إن المكان الفلسطيني كما كان يجري تصوره وتصويره من المنفى، ليس هو المكان الواقعي الذي عدنا أو عاد بعضنا أثر توقيع اتفاق أوسلو إليه، ليجد أن هذا المكان ما زال مقيداً بأغلال الاحتلال، وهو ليس الفردوس المفقود الذي كنا نتطلع شوقاً من أجل العودة إليه، بل هو أرض معذبة شقية اسمها فلسطين،  يسكنها بشر عاديون وليسوا ملائكة كما كانت تشي بعض الكتابات التي كتبها فلسطينيون وغير فلسطينيين، حولت الفلسطيني إلى رمز مقدس لا يطاله النقد ولا يعتريه النقصان، فإذا بنا ونحن نصطدم بالواقع اليومي للفلسطينيين في المناطق التي أقيمت عليها السلطة الفلسطينية، أمام بشر لهم مزاياهم وبطولاتهم وتضحياتهم، ولهم في الوقت نفسه نواقصهم ونقاط ضعفهم وأخطاؤهم.

     لذلك، اقتربت الكتابة الفلسطينية في السنوات الأخيرة على نحو أكثر واقعية، من العالم المشخص للفلسطيني، لتراه على حقيقته دون تزويق أو مبالغة ودون تزييف أو ادعاء، ما أدى إلى قفزة إلى الأمام في الكتابة الفلسطينية وفي ألوان الفن الفلسطيني الأخرى.

     وفي ظني أن ما حفّز الكتابة عن المكان وجعله في بؤرة اهتمام الكتاب والفنانين، انكشاف الحقيقة الصارخة التي تقول إن المكان يجري تغيير معالمه عبر الاستيطان والتهويد وبناء الجدار، والعمل على تحويل الفلسطينيين المقيمين في الضفة الغربية وقطاع غزة إلى مجموعات سكانية متناثرة، تعيش حياتها اليومية لمجرد العيش اليومي، في معازل مهددة في كل وقت بالاجتياح، وأهلها معرضون للتهجير غير المباشر تحت وطأة القمع والتجويع والحصار، وللتهجير المباشر حينما تحين ظروف مواتية لذلك.


     في زمن سابق، حينما دعت الظروف المحيطة بالفلسطينيين المقيمين تحت الاحتلال أو المتناثرين في بلدان الشتات، إلى انبعاث الهوية وتعزيزها وإلى بلورة الشخصية الوطنية الفلسطينية والمحافظة عليها، برزت في أوساط المثقفين الفلسطينيين والفنانين والمشتغلين في الشأن العام، نزعة إحياء الأغاني الشعبية والرقص الشعبي والدبكة والاهتمام بالأزياء الشعبية وأنواع التطريز المختلفة، وجمع الحكايات وتدوينها، وكذلك جمع كل ما له علاقة بالحياة الشعبية الفلسطينية من طقوس وعادات ومن أدوات طعام وأدوات زراعة وما شابه ذلك، والدعوة إلى الحفاظ على الأرض والتوجه إليها لزراعتها وصيانتها من المصادرة والبيع والاستيطان. وتمت إعادة إصدار كتابات توفيق كنعان الخاصة بالتراث الشعبي والمعتقدات الشعبية، وواصل شريف كناعنه ونمر سرحان وعبد العزيز أبو هدبا وغيرهم من الباحثين في الفولكور جهودهم في هذا المجال.


     بعد أوسلو، بدا واضحاً أن المكان ما زال يتهدده الخطر، والاحتلال لم يرحل ولا يبدو أنه سيرحل في زمن قريب. وهو ماض في تهويد الأرض وفي محو الذاكرة الفلسطينية وإفقار علاقتها بالمكان، وإحلال محلها ذاكرة يجري استحضارها من الأسطورة حيناً ومن الوقائع التي يجري فرضها على الأرض حيناً آخر، لتعزيز المقولة المزورة حول أرض بلا شعب لشعب بلا أرض، ولتبرير الغزوة الاستيطانية الصهيونية التي خضعت لها فلسطين، منذ بدايات القرن العشرين وحتى الآن.


     وفي ضوء ذلك، يمكن فهم حقيقة النقلة التي ظهرت في الأدب الفلسطيني المكتوب في المنفى وفي الداخل أيضاً. حيث اهتم الفلسطيني الذي يعيش في المنفى بتدوين محتويات ذاكرته في شكل سير ذاتية كما فعل جبرا ابراهيم جبرا في "البئر الأولى" راصداً طفولته في بيت لحم والقدس، وفي "شارع الأميرات" الذي رصد فيه تفاصيل حياته في بغداد. وكما فعل إدوارد سعيد في كتابه "خارج المكان" مبيناً فيه علاقته بالقدس. والأمر نفسه فعله إحسان عباس الذي كان مقيماً في عمان، وكتب سيرته "غربة الراعي" التي صور فيها حياته في حيفا والقدس ثم في المنفى مكرساً جزءاً أساسياً من الكتاب للتحدث عن سيرته العلمية والأدبية. وكما فعل أنيس صايغ في كتابه "أنيس صايغ عن أنيس صايغ" وفيه سرد لحياته في طبرية والقدس قبل النكبة، وفي بيروت والقاهرة وتونس وكمبردج بعد ذلك.


     وفي الداخل، كتب حسين البرغوثي سيرته "الضوء الأزرق"، وكتب  حنا أبو حنا عن حياته في الناصرة وفي القدس وغيرهما في سيرته "ظل الغيمة". وكتب نجاتي صدقي "مذكرات نجاتي صدقي" التي أعدها وقدم لها الكاتب حنا أبو حنا. كما كتب علي الخليلي عن طفولته في مدينة نابلس في سيرته "بيت النار".


     إلى جانب كتب السيرة الذاتية، ظهرت كتب على شكل شهادات تستوعب المكان الأول وأمكنة أخرى في الشتات، كما فعل فيصل حوراني في خماسيته "دروب المنفى" وفي كتابه "الحنين/ حكاية العودة". وثمة روايات اعتمد مؤلفوها على ذاكرة الناس واستخراج ما فيها من وقائع وتسجيلها، ومن ثم الاستفادة منها أو من بعضها في عمل روائي كما فعل ابراهيم نصر الله المقيم في عمان، في روايته الملحمية "زمن الخيول البيضاء" دون أن يكتفي بتسجيل ذاكرة الناس، وإنما قام أيضاً بقراءة مواد تاريخية وسير ويوميات لها علاقة بالفترة التاريخية التي كان معنياً بتغطيتها من تاريخ القضية الفلسطينية. الأمر نفسه فعله اللبناني إلياس خوري في رواية "باب الشمس"، وأما العراقي علي بدر، فقد نحا منحى آخر مهتدياً بفلسفة هايدن وايت حول أن التاريخ  هو اختراع يتم سرده ليتوافق مع مصالح جماعات محددة، وفي ضوء ذلك قرأ كثيراً مما له علاقة بمدينة القدس، ثم كتب روايته "مصابيح أورشليم".

     إلى جانب السير الذاتية والشهادات والروايات التي انشغلت بالمكان، ظهر الاهتمام بنشر اليوميات التي درج على تدوينها كتاب فلسطينيون وفنانون وأشخاص عاديون. وفي هذا الإطار قامت مؤسسة الدراسات المقدسية، بنشر ثمانية مجلدات حتى الآن من يوميات المربي المقدسي خليل السكاكيني، الذي دأب على تدوينها في الفترة من 1907 – 1953. كما قامت بنشر مذكرات الموسيقي المقدسي واصف جوهرية التي كتبها على شكل يوميات، إنما دون ذكرٍ للتواريخ التفصيلية، وذلك في الفترة من  1904-  1948 ، وقد تطرّق فيها إلى الحياة اليومية لأهل القدس في ظل العهدين العثماني والانتدابي البريطاني. 


     وأصدرت المؤسسة كتاب "عام الجراد" الذي يشتمل على يوميات الجندي المقدسي إحسان الترجمان، وهو يخدم في الجيش العثماني إبان الحرب العالمية الأولى، وبالتحديد في الفترة من 1915 – 1916 . وإذا كان بعض هذه اليوميات والمذكرات يكتفي برصد الحياة اليومية لأصحابها وللناس من حولهم، مع سرد مبسط لبعض الوقائع السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي حدثت في البلاد، فإن يوميات السكاكيني هي الأكثر امتلاء بالتجربة وبالرصد الدقيق للوقائع الشخصية والعامة، وبالأفكار الجديدة النابعة من اطلاع السكاكيني على الثقافة العربية التراثية، وعلى الفكر الغربي التربوي والفلسفي ذي النزعة الإنسانية، ما جعل السكاكيني يتبوأ مكانة بارزة في صفوف التنويريين الفلسطينيين في النصف الأول من القرن العشرين.


     ويجدر القول إنّ قليلاً من السير الذاتية الفلسطينية ذات المنحى الأدبي قد ظهرت في السنوات التي سبقت اتفاق أوسلو المبرم أوائل التسعينيات من القرن الماضي. فقد نشر الشاعر معين بسيسو مذكراته: "دفاتر فلسطينية" موضحاً فيها تجربته السياسية انطلاقاً من مدينة غزة التي ولد وترعرع فيها. ونشرت الشاعرة فدوى طوقان سيرتها الذاتية في كتابين هما: "رحلة صعبة.. رحلة جبلية" و "الرحلة  الأصعب" تحدثت فيهما عن حياتها في مدينة نابلس وعن ظروف نشأتها في أسرة محافظة.

     وواصل عدد من السياسيين الفلسطينيين نشر مذكراتهم التي أتوا فيها على ذكر المكان الفلسطيني باعتباره الحاضنة الأساس لنضالهم، من بينهم: محمد عزت دروزة، أكرم زعيتر، بهجت أبو غربية، فائق وراد، عودة الأشهب، عبد الرحمن عوض الله، طلعت حرب، ومحمود القاضي.

     ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل تسرب تأثير الذاكرة وضرورة العودة إليها واستنطاقها، وتبيان علاقتها بالمكان، إلى ألوان أخرى من الإبداع. فمنذ أن أصدر محمود درويش ديوانه "لماذا تركت الحصان وحيداً" وحتى صدور كتابيه "في حضرة  الغياب" و "أثر الفراشة" ونحن نرى ملامح من السيرة الشخصية لمحمود ولعلاقته بالمكان الفلسطيني، تتبدّى على نحو أو آخر في نتاجاته الإبداعية هذه.

     والأمر نفسه ينطبق على الفن التشكيلي، فحينما ظهرت لوحة الفنان المقدسي سليمان منصور في سبعينيات القرن الماضي، التي أطلق عليها اسم "جمل المحامل"، شاهدنا تجسيداً سوريالياً لحلم الفلسطيني بإنقاذ القدس من خطر التهويد، متمثلاً في شخص عتّال مقدسي يحمل المدينة على ظهره، بعد أن ربطها بحبل غليظ.

بعد خمس وثلاثين سنة من ذلك التاريخ، برزت نظرة  مختلفة للعلاقة مع المكان في لوحات الفنان جواد ابراهيم، الذي اعتمد على ذاكرته في استحضار قريته التي عاش فيها طفولته، وراح يجسّد بيوتها ونساءها، باستخدام التربة الحمراء الناعمة والجير الأبيض لرسم بيوت القرية وأهلها، كما لو أنه يريد القول إن أهل قريتي وبيوتها إنما هم مجبولون من تربة بلادي ومن عناصر الطبيعة الأخرى فيها.

     كما نجد في الاهتمام بالصور الفوتوغرافية، فرصة لاستذكار وقائع كاد يطمسها النسيان. مثلما فعل وليد الخالدي في كتابه "قبل الشتات: التاريخ المصور للشعب الفلسطيني 1876 - 1948" ومثلما تفعل الآن مؤسسة الدراسات المقدسية، في جمع الصور الفوتوغرافية المتوافرة لدى مؤسسات وأفراد، ومن ثم حفظها وتعميم نسخ منها للاستفادة منها في بحوث ودراسات، ولإحياء الذاكرة عبر هذه الصور، ولتأكيد الحضور الفلسطيني في المكان قبل الغزوة الصهيونية وبعدها. 


     وضمن هذا الإطار، يبرز الاهتمام بالعمارة الفلسطينية، والحرص على ترميم البيوت القديمة في بعض المدن والبلدات، ودراسة تفاصيل العمارة ومميزاتها في المدن الفلسطينية، كما فعل محمود هواري في كتابه "القدس الأيوبية 1187 - 1250"، وكما فعل الدكتور نظمي الجعبة وخلدون بشارة في كتابهما "رام الله.. عمارة وتاريخ". وكذلك  عمر حمدان في كتابه "العمارة الشعبية في فلسطين".

     وقد ظهر منحى آخر له علاقة بالاهتمام بالمكان، وذلك بعد العودة التي جربها بعض الكتاب والفنانين الفلسطينيين في الفترة التي أعقبت اتفاق أوسلو، واعتبارهم إياها عودة ناقصة بالنظر إلى  أن ظل الاحتلال لم ينحسر بعد عن الأرض الفلسطينية، وقد ظهر ما سماه بعض النقاد آنذاك: "أدب العودة" مشتملاً على نصوص نشرت في إحدى زوايا مجلة الكرمل التي يرأس تحريرها الشاعر محمود درويش وبمبادرة منه، وحملت العنوان: "ذاكرة  المكان.. مكان الذاكرة". في هذه الزاوية كتب مريد البرغوثي، حسن خضر، زكريا محمد، ليانة بدر، أحمد دحبور، سلمى الخضراء الجيوسي، فاروق وادي، ومحمود شقير، نصوصاً رصدوا فيها مشاعرهم وهم يعودون إلى المكان الأول، الذي ولدوا وعاشوا فيه ثم اضطروا إلى مغادرته. وظهرت مدن فلسطينية مثل القدس ورام الله وغزة وأريحا في هذه النصوص. ثم ما لبث أربعة من هؤلاء الكتاب أن طوروا نصوصهم التي نشروها في الكرمل، إلى كتب نشروها وانتشرت في عدد من الأقطار العربية، وبعضها ترجم إلى لغات أجنبية. نشر مريد البرغوثي كتابه "رأيت رام الله" ونشر حسن خضر كتابه "أرض الغزالة، ونشر فاروق وادي كتابه "منازل القلب" ونشرت أنا كتابي "ظل آخر للمدينة" الذي تحدثت فيه عن القدس، ومؤخراً نشر مريد البرغوثي كتابه "ولدت هناك... ولدت هنا" الذي يندرج في السياق نفسه على نحو ما.
___________
* ملاحظة: كتبت المقالة في العام 2009 ولذلك غاب منها ذكر الروايات والسير واليوميات التي ظهرت بعد هذا التاريخ.

الأحد، 4 سبتمبر 2016

وداعة



قصة: محمود شقير

تأتي وحدها إلى المكان الذي اعتادا الجلوس فيه، ترقب القرية الصغيرة التي تنام في حضن الجبل. ثمة على البعد بيت كئيب أمامه امرأة وحيدة تشعل النار في الحطب، وثلاثة من رجال الشرطة يتدثرون بمعاطفهم، يتمشون في ساحة المخفر مثل أطفال وادعين.
       لماذا جاءوا في الظلمة واقتادوه بعيداً عنها، ما داموا بمثل هذه الوداعة التي تغلف حركاتهم في الساحة البعيدة، المحاطة بغبش المساء، الذي يتسرب إلى صدرها مثل وباء، لا تدري كيف تصده أو تمنعه من الدخول!


الخميس، 1 سبتمبر 2016

صالة




قصة: محمود شقير

يأتيان معاً إلى صالة المطار، يرقبان الناس وهم يجتازون الأبواب التي تنفتح تلقائياً، يتأملان اللوحة الإلكترونية التي تصدر بين الحين والآخر خشخشة لها وقع محبب في الصدور.
       يحدقان في وجوه العائدين من الخارج، يشيعان الذاهبين إلى الآفاق البعيدة، وتنمو في صدره وصدرها الرغبة في التجوال والانعتاق، ولا ينتظران أحداً، إذ يكفيهما أن يدخلا صالة المطار بين الحين والآخر، ليشعرا بالدفء وبالتواصل مع عوالم تتحدث عنها اللوحة الإلكترونية باختصار.
       بعد أيام، حينما لوحظ ترددهما الزائد على هذا المكان الاستثنائي، وعلى رغم حسن نواياهما المطلق، فقد اضطرا إلى التوقف عن ممارسة متعتهما الأخيرة تلك في صالة المطار.