*محمود شقير
للقاص عدي مدانات تجربة ممتدّة في كتابة القصة القصيرة. وهو مخلص لها ومثابر على كتابتها، بحيث تبدو على يديه جنسًا كتابيًا قادرًا على اجتذاب القرّاء في زمن الانترنت والفضائيات وثقافة الصورة، وفي زمن الترويج للرواية باعتبارها الجنس الأدبي الأكثر قبولاً لدى النقّاد والقرّاء سواء بسواء.
ورغم أن عدي مدانات كتب ثلاث روايات خلال مسيرته الأدبية، إلا أن لونه المفضّل في الكتابة هو القصة القصيرة التي يكتبها بشغف، وبمتعة توازي متعته بالحياة التي يغترف منها المادة الخام لقصصه. ولن أجانب الحقيقة إذا قلت إن عدي مدانات يعتبر اليوم من أبرز كتّاب القصة في الأردن وعلى امتداد الوطن العربي.
ولعلّ عدي مدانات أن يكون واحدًا من كتّاب القصة العرب الذين أخلصوا لهذا اللون من الإبداع، ليس فقط لجهة المثابرة على الكتابة ومراكمة المزيد من القصص، وإنما كذلك لجهة الحفاظ على أسلوب خاص في السرد القصصي لا تخالطه البلاغة الزائدة إلا ما ندر، ولا يربكه التجريب العشوائي المنفلت من عقاله دون ضوابط أو معايير. وثمة في قصصه بنية فنية متماسكة مكتوبة بلغة بعيدة من التقعر اللغوي، ولا مجال فيها للثرثرة أو للاستطرادات غير المبررة فنياً، وفيها كذلك ميل مدروس نحو السهولة والبساطة والشفافية التي تضعنا وجهًا لوجه أمام ما يطلق عليه النقّاد: السهل الممتنع في الكتابة القصصية.
ولعدي مدانات قدرة على كتابة قصة انطلاقًا من مفردات الحياة اليومية العادية، ومن التفاصيل الصغيرة التي يتشكل من مجموعها السرد القصصي، وهو سرد هادئ يعتمد التلميح لا التصريح، يبدو فيه الراوي محايدًا وما هو بمحايد، لأنه يختار للمتلقي ما يريد ببراعة ودون تدخل فظّ أو استعراض ممجوج. ومما يساعد على هدوء السرد في قصصه تلك الجملة الخبرية المبدوءة في الأغلب الأعمّ بالفعل الماضي، لكنه الهدوء المخادع الذي يخفي تحت سطحه توترات نفسية وصخبًا ومشاعر جامحة.
ولعدي مدانات أيضًا قدرة على الاختفاء من فضاء قصته، بسبب ما لديه من خبرة في الكتابة، وحينما لا تأخذ مادة القصة فرصتها للتجسّد على نحو مقنع، ينكشف حضور المؤلف في فضاء القصة، ويتكئ في هذه الحالة على البلاغة الزائدة لسدّ الفراغ الذي لم يسدّه اكتمال حالة الخلق الفني، ويمكن التدليل على ذلك بما ورد في قصة "هاتف السيدة" التي انتهت وهي تبشر بطلة القصة بحياة هانئة لم تكن تشعر بها من قبل: "حينما أعادت السماعة وجدت نفسها تمتطي موجة غبطة عالية وتسبح في محيط من الرغد". (شوارع الروح ص64 )
إن التعاطي مع الحياة باعتبارها قيمة عليا لا ينبغي لنا التفريط بها أو التقليل من شأنها، يشكّل هاجسًا مهمًا من هواجس عدي مدانات. وهو لذلك يسعى باستمرار للقبض على اللحظات الهاربة التي تعكس تجربة ممتعة وقعت في الماضي، لا لتمجيد الماضي أو لتكريسه، وإنما لبعث المتعة من جديد للكائن الإنساني الذي يضجره الحاضر ويحاصره، ولإعلان التمسك بالحياة وبضرورة تكرار لحظات الفرح والغبطة التي لا تستقيم الحياة من دونها.
يلعب الماضي وما يشتمل عليه من ذكريات دورًا بارزًا في العديد من قصص عدي مدانات. وتنبعث الذكريات على نحو مفاجئ بسبب حالة خاصة في الحاضر استدعت انبعاثها. يظهر ذلك على سبيل المثال في قصة "مريول مدرسي"، فالتلميذة التي تمرّر رسالة إلى شاب معجب بها، تحاذر أن يراها أحد. وهي تنقل دون أن تدري العدوى إلى المرأة ذات الثلاثين ربيعًا التي تراقب المشهد من بُعد. وحينما تعود هذه المرأة إلى بيتها تقف أمام المرآة وتتذكّر أيام مراهقتها ويعتريها توتّر نفسي وتبكي.
إن النمو الدرامي في قصص عدي مدانات يعتمد أساسًا على التوترات النفسية التي تنشأ داخل النفس البشرية، وما يترتب على ذلك من سلوكيات متنوعة بحسب مزاج الشخصية وثقافتها ووعيها واستعداداتها. وتكتسب ثيمة العزلة والرغبة في التواصل الإنساني الذي ينقطع لسبب أو لآخر، حيزًا غير قليل في هذه القصص. ففي قصة "ما لم يُقل ذات ظهيرة" يلتقي الموظف المتقاعد امرأة تصغره في السن بعشرين عامًا، جاءت مثله إلى متجر كبير للتسوّق. يتبادل معها أثناء ذلك كلامًا عفويًا نابعًا من وحي اللحظة، ويشعر بارتياح لحديثها ولرقتها وسماحة نفسها، غير أن هذا اللقاء محكوم عليه بأن ينتهي مبقيًا في النفس لوعة وأسى، بسبب انقطاع التواصل بعد أن "دفعت (المرأة) الحساب وخرجت وما كان بوسعه اللحاق بها".
وتعبيرًا عن هذه الثيمة نفسها، ثيمة العزلة الناتجة عن فعل الزمن في الكائن الإنساني حينما يتقدم به العمر ويبتعد عنه أبناؤه، يكتب عدي مدانات قصصًا تكشف عن مدى حاجة الإنسان إلى التواصل الإنساني، وعن مدى الخوف الذي يسيطر عليه جرّاء العزلة وافتقاد الطمأنينة. ففي قصة "المهاتف غريب الشأن" ترتبك المرأة "التي فقدت بزواج آخر الأبناء ذلك الإحساس بالأمن والحماية وصارت تتخوف من كل طارئ"، فقد هاتفها في الفجر شخص غريب وأطلق تهديدًا لزوجها وقال إنه قادم لكي ينفّذ تهديده. وينتقل خوف الزوجة إلى زوجها الذي لم يعد رجلاً قوي البنية بسبب التقدّم في العمر، ظلّ هو وزوجته يراقبان حديقة البيت من وراء زجاج النافذة، ولم يهدأ خوفهما إلا حينما تبدّدت العتمة وأخذ "ضوء الصباح يتوضح أكثر وأكثر" (شوارع الروح ص59 ) وأثناء ذلك وأمام توقّع الخطر يزداد الزوج احتياجًا لزوجته وهي تزداد احتياجًا له.
تتفاقم عزلة الرجل المهزوم أمام وطأة الزمن، وتظهر على نحو ملحّ في قصة "العيش في الماضي" حيث لا يصدّق أبو صفوان أن زوجته ماتت . يذهب في الصباح إلى صاحب المخبز، صديقه أبي جواد، لكي يعيد له زوجته من بيت أهلها، لأنه يحنّ إليها بعد أن طال الفراق، وهو يشرح لأبي جواد كيف يحلم بأنه يراها في البيت، وهو نادم لأنه أخطأ في حقها ما جعلها تتركه وتعود إلى بيت أهلها. وهو الآن يريد أن يعيدها إلى بيته، ويتمنى على أبي جواد أن يذهب معه لهذه الغاية. وبالطبع يفاجأ أبو جواد من هذا الكلام، لأن أم صفوان ماتت منذ سنوات!
وللفجر دلالته الخاصة في قصص عدي مدانات، فهو أول النهار، وهو بدء يوم جديد، وهو بدء حركة الناس ومبرر يقظتهم ومغادرتهم لبيوتهم. وبين الناس من يبدأ يومه بداية جيدة وبينهم من لا يبدأ يومه بداية جيدة. يظهر ذلك في "الفجر لا يخفي عيوبه" حيث يبني الكاتب قصة متميزة من تفاصيل في غاية البساطة والرهافة، وحيث يستيقظ بطل القصة في الفجر ويخرج إلى الشرفة ولم يكن أمامه "سوى أفق رمادي شفيف وشرفات خالية ونوافذ مغلقة وسكون مطبق"، وحينما تمرّ بخاطره كآبات حياته وخساراتها، يعود إلى سريره ولا يغادره في الوقت المحدد كما هي عادته، ما أغضب زوجته التي كانت منهمكة في تحضير أولادها للذهاب إلى مدارسهم.
وقد تتعدّد أسباب عدم مغادرة السرير في الصباح تبعًا لشتى الحالات النفسية التي تعتري البشر. ففي قصة "الآنسة روزا" التي تعيش وحيدة بعد أن فاتها قطار الزواج، تبقى الآنسة مضطجعة في سريرها رغم أن هذا اليوم ليس يوم عطلة. وهي تسترجع في ذهنها ما يُروى عن لصّ في المدينة "يراقب المنازل ويختار المنزل الذي يخلو إلا من امرأة واحدة، فيتسلل إليه في وضح النهار غالبًا، ويأخذ مصاغ المرأة الوحيدة على حين غرة ثم يغتصبها" (شوارع الروح ص42 ). وقد يتوقع المتلقي أن الآنسة روزا ستتخذ إجراءات كفيلة بحمايتها من عدوان كهذا، غير أن مسار السرد يأخذه إلى منحى آخر يكشف عما في نفس الآنسة من رغبات جنسية مكبوتة، إلى الحد الذي يجعلها، رغم خوفها، راغبة في قدوم هذا اللص إلى بيتها، وهي لذلك تتلكأ في عدم الذهاب إلى المحل التجاري الذي تبيع فيه الزهور، وتذهب إلى الحمّام لكي تستحم، ثم تتوقّع أنه لو اقتحم بيتها الآن وهي في الحمام، فسوف تخرج من الحمام لكي تعرف ما يدور في بيتها، وسترى اللص الذي "سوف يصل إلى ما يريده شاءت ذلك أم أبت" (شوارع الروح ص45 ).
تكشف هذه القصة الأخيرة عمّا يمكن أن أسميه المثير الخارجي وأثره على الحالة النفسية لشخوص عدي مدانات. فالكاتب وهو يعرّض شخوصه لهذا المثير ينأى عن التوقعات المألوفة، ويعمد إلى كشف رغبات غير متوقعة داخل الكائن الإنساني، ما يكسب قصصه عمقها وتأثيرها في نفوس القراء.
ففي "حادث عارض"، كان يمكن للقصة أن تظلّ في إطارها العادي الذي لا يكشف جديدًا، لولا أن فتاة اقتربت من الشاب الذي راقب دون اكتراث مشهد اصطدام في الشارع بين سيارتين، وحينما سألته الفتاة عن تفاصيل الحادث، لم يتمكن من تقديم معلومات كافية لها لأنه لم ينتبه أصلاً لذلك، وهو ما جعله يشعر بالندم، ثم يفكّر بأن يحرف الحديث نحو اتجاهات شتى لعله يستبقي الفتاة فترة أطول معه، غير أنه لم يحبّذ ذلك خوفًا من ردّة فعلها. وفي النهاية فإنها تتركه، وهو يحاول أن يتبعها لكنها تركب سيارة أجرة وتبتعد. ولا يبقى له إلا أن يواصل التردّد على المكان الذي التقاها فيه لعله يلتقيها ثانية، غير أنها لا تأتي، وبذا يضعنا الكاتب أمام لحظة هاربة تبدّت للشاب ثم انتهت مخلّفة في نفسه مرارة وأسى.
وفي قصة "صاحبة المنزل العجوز" كان يمكن لحسام الشاب الذي يستأجر غرفة في منزل السيدة العجوز، أن يستمرّ في نفوره منها لولا صورها التي دفعه الفضول إلى التفرّج عليها أثناء غياب السيدة. تلفت الصور انتباهه إلى جمال السيدة في شبابها، وإلى امتلاء حياتها بالمسرّات في زمن مضى، ما يدفعه إلى تغيير موقفه منها وإلى الرغبة في التقرب منها والتواصل معها.
وفي قصة "ثلاثتهم" نجد أنفسنا أمام رجال ثلاثة لا يقلّ عمر الواحد منهم عن الستين عامًا، وهم يلتقون في المتجر الصغير، لكنهم يتجنبون الدخول في أحاديث فيما بينهم، "رغم أن سكون المتجر يحرك الرغبة في تبادل الحديث". وبالطبع، فإن لكلّ واحد من الرجال الثلاثة عالمه الداخلي الذي يضيئه السرد القصصي ويتغلغل في ثناياه، بحيث تبدو الرغبة في التواصل وفي تبادل الحديث ملحّة بالنسبة إلى كل واحد منهم، غير أن ثمة حواجز غير مرئية تحول دون هذا التواصل، ولم تنكسر الحواجز إلا حينما هطل المطر والرجال الثلاثة في المتجر. تنطلق ألسنتهم بالتعليق على المطر، ثم يأخذهم الحديث إلى ما هو أبعد: إلى الذكريات التي استثارها في النفوس المطر.
وفي "اغتسال ضوئي" يتمثّل المثير الخارجي في فتاة جميلة تقف في الليل خلف زجاج نافذة غرفتها المضاءة. يتأملها الفتى الذي كان عائدًا إلى بيته وهو مستاء من نفسه بسبب تصرفاته في المدينة. حينما يراها ويتأمّل جمالها يتطهّر مما يثقل عليه من مشاعر سلبية، ويبدو كمن اغتسل بالضوء وعاد إلى بيته وهو في حال من الغبطة التي لم يجربها من قبل.
تضيء هذه القصة الأخيرة علاقة الشخوص في قصص عدي مدانات بالأمكنة، وهي أفضل مثال على التطابق بين الأمكنة ونفسيات الشخوص، بحيث يصدق عليها ما قاله الناقد د. سليمان الأزرعي في كلمته المنشورة على غلاف المجموعة القصصية "شوارع الروح" : "تتجلى في العديد من أعمال المجموعة جدلية الشخوص بالمكان بشكل عميق، وتكشف عن العلاقة الحميمة ما بين النماذج البشرية و (أمكنتها) المدّخرة في ذاكرة الطفولة".
فالفتى الذي كان مستاء من نفسه اختار أن يبتعد عن الشوارع المستقيمة المضاءة. مشى في شوارع فرعية معتمة ومتعرجة. وحينما تطهّر من مشاعره السلبية "قفز إلى الشارع من جديد. كان الشارع يمتد فسيحًا مستقيمًا محاطًا بالأشجار والمنازل الآهلة بالسكان. رفع جذعه وأسرع الخطو إلى منزله، ناهضًا بهيًّا، مضاءً من الداخل ومغتسلاً بالضوء". (شوارع الروح ص132 )
ولا يعتبر المكان في قصص عدي مدانات مجرّد إطار خارجي يحتوي مادة قصصه، وإنما هو مكوّن أصيل من مكوّنات هذه القصص، يظهر ذلك في قصة "روح المكان" حيث يجري هنا التمسّك بالمكان وعدم التفريط فيه، في حين يحوّله بعض تجار العقارات إلى سلعة، وحيث تضعنا مساومة من أجل شراء بيت قديم أمام كشف خلّاق لدواخل النفس البشرية، ولمدى تعلّقها بالمكان الذي أودعته ذكرياتها وجزءاً من حياتها. ولعلّ التمسك بالمكان يعني من وجه آخر احترام الإنسان لإنسانيته ولذكرياته ولهويّته. وكما قال ميشيل فوكو فإنه: "لا يمكننا فهم الأمكنة باستقلال عن ممارسة الناس".
تتخذ أغلب قصص عدي مدانات من المدينة مكانًا لها، ويتحرك أبطال قصصه في فضاء المدينة، في شوارعها، في مباني مؤسساتها، في أحيائها السكنية، وفي بيوتها الموصوفة من الداخل بما يتطلّبه السرد القصصي من دقة واستبصار. ويتوزّع أبطال القصص على طيف واسع من البشر، نجد بينهم المناضل الشهيد، الموظّف البسيط، الرجل المسنّ المحال على التقاعد، البائع المنتمي إلى فئة ذوي الاحتياجات الخاصة، المرأة العاملة، المرأة الطاعنة في السن التي لم تغادرها الرغبة في العيش، الفتاة والفتى الباحثين عن الحب، الأزواج والزوجات في تجليات شتى تقتضيها الحياة العصرية بكلّ ما فيها من تقلبات واحتمالات. ونجد نساءً ورجالاً لهم همومهم وأشواقهم وتطلعاتهم التي قد تنتهي بلحظة فرح، وقد تنتهي بالفقد وبعدم التحقّق وبانقطاع التواصل الذي يترك في النفس فراغًا مؤلمًا.
إنها الحياة في تجلّياتها المختلفة، يرصدها عدي مدانات ويقدمها لقرّائه في قصص جميلة مرسومة بالكلمات.
_______________
جريدة الرأي الأردنية
الجمعة 26 / 2 / 2010