ست زوجات و18 ابنًا وتسع بنات، وما يقرب من المئتي حفيد، ومع ذلك يشعر الأب منان، شيخ عشيرة عبد اللَّات، أنه مات، وأن موته لم يحدث في يوم الخميس من نهاية عام 1982 كما يخبرنا به الراوي، ابنه الأصغر محمد، بل يعود إلى عام 1935 حين اتخذ قرار رحيل عشيرته من مضاربها النائية، خلف مدينة القدس، إلى تخومها القريبة التي صارت مع الزمن حيا من أحيائها.
ما لا يعرفه منان أن موته الحقيقي حدث عام 1956 عام الانتخابات البرلمانية في القدس، زمن الوصاية الأردنية عليها، عندما لم يبال أحد بتوصياته لهم بانتخاب مرشح بعينه، وتوزع انتماءاتهم إلى مشارب حزبية شتى لا تمت بصلة إلى روابط الدم والقربى العائليتين. مات منان وإلى غير رجعة عندما أدرك استحالة قيام أحد من أبنائه بلم شمل العائلة، ناهيك عن العشيرة، وفق رابط العصبية القديم الآخذ بالتفسخ والذوبان لصالح روابط وعصبيات أخرى.
ترصد رواية "مديح لنساء العائلة" (دار نوفل) للروائي الفلسطيني محمود شقير، مظاهر الحداثة ونزعاتها الفكرية التي أصابت عشيرة عبد اللَّات عقب استقرارها على تخوم مدينة القدس. فمن بين مظاهر الحداثة الثلاث "السلطة، المرأة، الدين"، ينحاز شقير إلى رصد التحولات التي أصابت موقع المرأة في المجتمع الذي يحكي لنا عنه، كونها الشاهد الحي على مدى التحولات وعمقها.
في النسيج الحكائي نحن إزاء امرأة لم تعد تقنع بدور الزوجة - الأم الذي تقتصر وظيفتها على تحقيق المتعة الذكورية وحفظ النوع البشري. لذا نراها تندفع بحماسة للقيام بمهن لم تألف ممارستها من قبل، لإحساسها الدفين أن الاستقلال الاقتصادي هو المقدمة الضرورية لتحقيق كافة أنواع الاستقلالات الأخرى في الفضاء الاجتماعي الذي تتحرك فيه. فقد صار بمقدور سناء، العاملة في بنك، أن تنظر لقرار طلاقها من زوجها الأول كنوع من الخيار لا كمصيبة وقعت على رأسها. كما صار بمقدور مريم المسيحية التي تدير كشكها الصغير أن ترتبط بمحمد الكبير دون أن تبالي بالتبعات الاجتماعية لقرارها. وصار بمقدور نوال التي عاشت معظم حياتها ذات الطابع المديني أن ترفض الزواج من ابن عمها أدهم غير مبالية بصلات القربى والدم، وأن تغامر الابنة فلحة بنت منان بالهروب مع الشخص الذي رفض أبوها تزويجها منه، غير مبالية بفداحة السمعة الاجتماعية التي ستلحق بها وبعائلتها، ولا بالعقاب الذي قد يتربص بها.
في "مديح لنساء العائلة" نحن إزاء حداثة مشوهة، تتجاور فيها أنماط التفكير التقليدية مع أنماط التفكير الحديثة دون أن تحدث الأخيرة قطعًا واضحًا على غرار الحداثة الأوروبية. ففي الوقت الذي لا يمانع فيه فليحان المحدث النعمة؛ عبر امتهانه لتجارة تهريب مادة حشيش الكيف، وصاحب الفكر التقليدي سياسيًا لمناصرته الحكم الملكي الأردني دومًا، في ارتداء زوجته للملابس التي تسمح بكشف جزء من جسدها، ومشاركتها له حفلات السمر، إلا أن ذلك لا يندرج في إقراره بحق المرأة بالتمتع بهذا الحق كنوع من الندية، بل أن الأمر لا يتعدى مظهر الديكور الاجتماعي الذي يجعل من المرأة بمنزلة الزينة. فالمرأة الزينة بفستانها القصير، تبدو كما لو أنها قد تمكنت من تحرير نفسها من تلك النظرة الآثمة التي تربط بين الجسد العورة والرذيلة.
الحداثة في "مديح لنساء العائلة" ليست مشروعًا نسويًا، بل مهمة ذكوريّة بامتياز، تنطلق من تلك الحقيقة البسيطة أنه لا يمكن لإنسان أن يكون حرًا مادام يصر على سلب حرية إنسان آخر. فإذا ما أراد الرجال أن يكونوا أحرارًا فما عليهم سوى أن يساهموا بتحرير أنفسهم من تسلطهم الذكوري على النساء. ولكي يستطيع محمد الأصغر أن يكون جزءًا من هذا الفعل التحرري، كان عليه أن يتقدم باستقالته من وظيفته ككاتب عقود زواج في المحكمة الشرعية، كي لا يكون شاهدًا على الظلم الذي تتعرض له النساء استنادًا إلى قانون الأحوال الشخصية.
لا يكفي لزوجة محمد الأصغر أن تركن إلى حب زوجها لها، وإنما إلى حقها في منع زواجه من امرأة أخرى بموجب القانون. في مساهمته لإنجاز هذا الفعل التحرري يتجه محمد إلى المسرح، حيث الناس وجهًا لوجه مع أنفسهم، وعلى المسرح يتم تمزيق الأقنعة والإعلان عن المخبوء؛ نزعاتنا الفردية، وحبنا للتسلط، وتمزقنا الداخلي بين النزوع إلى الحرية والاستسلام لأقدارنا. المسرح وفقًا لوعي محمد الأصغر ليس عملية تطهر من أخطائنا وشرورنا فحسب، بل عملية تجاوز لكل ذلك. يتعلم محمد من المسرح أن كل تغير مرغوب يبدأ من ثنائية الإرادة - الفعل، وذلك في مسرح الحياة الكبير ودهاليزها، وكل تغير جدي أي حداثي يبدأ من تغيير علاقتنا بالجسد، من جسد المرأة بالذات، من الكف بالنظر إليه كونه وعاء للذة، بل بالنظر إليه كوعاء لتجلي الروح التي تتوق للانعتاق من كل قيد. يقصد محمد البحر كي يمنح زوجته فرصة اكتشاف جسدها كموطن للحياة والبهجة والسرور، عله يشكل مدخلًا لتخلصها من مشاعر الإثم والنقص والرذيلة التي علقت به طوال القرون الماضية.
مصلح مصلح - كاتب من فلسطين/ سوريا
صوت Altra
25 / 4 / 2016