السبت، 25 يونيو 2016

غياب




قصة: محمود شقير

بيتها في الطابق السادس عشر. في فضاء النافذة التي تستقبل ليل المدينة يقفان، والمرأة تتأسى على حياتها، لأن الرجل الذي يلف ذراعه حول خصرها الآن، سيمضي غداً مخلفاً وراءه قبضة من ذكريات، والرجل الآن في غاية النشوة لأنه مولع بهذا النمط المملوء بالأسى الشفيف من النساء.
       والمرأة تحصي في ذاكرتها كل الرجال الذي وقفوا في هذه النافذة وقتاً ثم مضوا، فتأكل أعصابها الوحدة التي لم تتفاقم في قلبها من قبل مثلما هي الآن.
       والرجل الذي سيمضي في الغداة لا يرضيه توقف الموسيقى المفاجىء، يستدير نحو الجهاز، يشغل اسطوانة الدانوب الأزرق للمرة السابعة، ثم يعود إلى النافذة ليكتشف في دهشة طاغية أن المرأة قد مضت، إذ لم تعد موجودة هناك في الموضع الذي كانت تقف فيه قبل لحظات.


الجمعة، 17 يونيو 2016

بؤس



قصة: محمود شقير

مصباح شاحب يتدلى من السقف، والأسرة تجلس تحت المصباح، تتناول طعامها دون كلام. البنت تحاذر أن تغطس أظافرها في الصحن خوفاً على طلاء أظافرها الرخيص. الولد يأكل بيده اليسرى ويرقب الصحن باشمئزاز، لأنه لا يطيق أظافر أخته ولا طلاءها الرخيص. الأب يفكر بمستقبل الولد ومستقبل البنت، والأم تربكها رائحة البصل تفوح من ثوبها العتيق.

       المصباح الشاحب في اللحظة غير المواتية يستقيل من العمل، تغزو الظلمة المكان، يلوذ أفراد الأسرة بفراشهم، وثمة على طبق القش طعام بارد في صحن، فوقه مصباح يقتله الخجل لأنه لم يعد يضيء.

الأربعاء، 15 يونيو 2016

على سبيل المثال




قصة: محمود شقير

تذهب في الصباح إلى المعرض، تشتري كتباً بمختلف اللغات، ولا يفارقها الأسى، لأنها لم تقابل أحداً من معارفها لتقول له على سبيل المثال: عم صباحاً.
       تعود إلى غرفتها البلهاء، فلا يبارحها الأسى، لأن الغرفة لم تسألها على سبيل المثال: ألم تقابلي فتى الأمس صدفة كما تمنيت هذا الصباح؟
       تقف أمام المرآة، تتأمل جمال الخدين والعنق، يترسب في قلبها الأسى، لأن المرآة، منذ جاءت للعيش معها، لم تخرج عن صمتها الثقيل ولو مرة واحدة على سبيل المثال.


الخميس، 9 يونيو 2016

«مديح لنساء العائلة».. صورة مكبرة لإنسان فلسطين




إيمان محمد (أبوظبي) 


يرسم محمود شقير صورة مكبرة لإنسان فلسطين في روايته «مديح لنساء العائلة» المرشحة للجائزة العالمية للرواية العربية (البوكر العربية) متجاوزاً محدودية العنوان الذي يوحي بحصر الرواية في النساء، غير أنه يتتبع اضمحلال عشيرة كاملة تحت وطأة الاحتلال والتحولات السياسية العاصفة والصراعات التي تلته، بينما تجبر الحداثة العشيرة على التخلي عن بداوتها رويداً رويداً.
ومع أن الرواية تعد امتداداً لروايته السابقة «فرس العائلة» الصادرة العام 2013، إلا أن أسلوب كتابتها لا يوحي بالقطع أو الوصل، إذ يدون ويسرد محمد الأصغر الذي يعمل في المحكمة الشرعية في القدس مقتطفات من التاريخ الاجتماعي لعائلته «العبد اللات» التي تهاجر من البرية لتستقر في «رأس النبع» القريبة من القدس، وسيتطلب تتبع تفاصيل السرد الكثير من التركيز، إذ تكتظ الرواية بالعديد من الشخصيات، لاسيما أبناء منان الثلاثة الذين يحملون اسم محمد، ولكل منهم أم مختلفة، ويتم التفريق بينهم بلقب الكبير والصغير والأصغر، وهناك زوجات الأب منان الستة، والأبناء الآخرون وزوجاتهن عبر الحدود والأحفاد المنسلون منهم.
ويمتد زمن الرواية منذ الخمسينات حتى الثمانينيات حيث يتوفى الجد منان مكدوداً وهو يرى العشيرة متفرقة، ومع أنه يوكل مهمة إعادة جمع العائلة إلى محمد الأصغر إلا أنه يعترف بعجزه عن ذلك، ويعد والده بتدوين سيرة العائلة، بعد فشله في تحقيق حلمه الأدبي ككاتب سينمائي أو قاص أو كاتب مسرحي. ولا نجد مديحاً حقيقياً للنساء إلا إشارة محمد الأصغر أنهن مظلومات، فالعمل يركز على ثرثراتهن وجلسات النميمة التي يقدنها ضد بنات العشيرة اللاتي بدأن يواكبن الحداثة، بما فيهن النساء من خارج العشيرة مثل جيزيل الزوجة البرازيلية لأحد الأبناء، والتي لم يقابلها أحد من قبل، فيما تظهر وضحا الزوجة الأصغر لمنان وأم محمد الأصغر كشخصية مهيمنة رغم معتقداتها الراسخة بالجن والعين والحسد وشر النساء، حيث تمثل قوة في وجه التغيير والحداثة.
وتتعدد الأصوات السردية في الرواية لتشكل فرشة ثرية وزخماً لأسلوب حياة متحول، بينما تضيف الرسائل التي يكتبها الابن عطوان من البرازيل بعداً مختلفاً للتغريبة الفلسطينية، إذ ينقل أخباره وأخبار من هاجر معه هناك، ويعلق على أخبار العشيرة المبعثرة.

تاريخ النشر: السبت 23 أبريل 2016

جريدة الاتحاد

مديح لنساء العائلة.. العشيرة تدخل الحداثة


ست زوجات و18 ابنًا وتسع بنات، وما يقرب من المئتي حفيد، ومع ذلك يشعر الأب منان، شيخ عشيرة عبد اللَّات، أنه مات، وأن موته لم يحدث في يوم الخميس من نهاية عام 1982 كما يخبرنا به الراوي، ابنه الأصغر محمد، بل يعود إلى عام 1935 حين اتخذ قرار رحيل عشيرته من مضاربها النائية، خلف مدينة القدس، إلى تخومها القريبة التي صارت مع الزمن حيا من أحيائها.
ما لا يعرفه منان أن موته الحقيقي حدث عام 1956 عام الانتخابات البرلمانية في القدس، زمن الوصاية الأردنية عليها، عندما لم يبال أحد بتوصياته لهم بانتخاب مرشح بعينه، وتوزع انتماءاتهم إلى مشارب حزبية شتى لا تمت بصلة إلى روابط الدم والقربى العائليتين. مات منان وإلى غير رجعة عندما أدرك استحالة قيام أحد من أبنائه بلم شمل العائلة، ناهيك عن العشيرة، وفق رابط العصبية القديم الآخذ بالتفسخ والذوبان لصالح روابط وعصبيات أخرى.
ترصد رواية "مديح لنساء العائلة" (دار نوفل) للروائي الفلسطيني محمود شقير، مظاهر الحداثة ونزعاتها الفكرية التي أصابت عشيرة عبد اللَّات عقب استقرارها على تخوم مدينة القدس. فمن بين مظاهر الحداثة الثلاث "السلطة، المرأة، الدين"، ينحاز شقير إلى رصد التحولات التي أصابت موقع المرأة في المجتمع الذي يحكي لنا عنه، كونها الشاهد الحي على مدى التحولات وعمقها.
في النسيج الحكائي نحن إزاء امرأة لم تعد تقنع بدور الزوجة - الأم الذي تقتصر وظيفتها على تحقيق المتعة الذكورية وحفظ النوع البشري. لذا نراها تندفع بحماسة للقيام بمهن لم تألف ممارستها من قبل، لإحساسها الدفين أن الاستقلال الاقتصادي هو المقدمة الضرورية لتحقيق كافة أنواع الاستقلالات الأخرى في الفضاء الاجتماعي الذي تتحرك فيه. فقد صار بمقدور سناء، العاملة في بنك، أن تنظر لقرار طلاقها من زوجها الأول كنوع من الخيار لا كمصيبة وقعت على رأسها. كما صار بمقدور مريم المسيحية التي تدير كشكها الصغير أن ترتبط بمحمد الكبير دون أن تبالي بالتبعات الاجتماعية لقرارها. وصار بمقدور نوال التي عاشت معظم حياتها ذات الطابع المديني أن ترفض الزواج من ابن عمها أدهم غير مبالية بصلات القربى والدم، وأن تغامر الابنة فلحة بنت منان بالهروب مع الشخص الذي رفض أبوها تزويجها منه، غير مبالية بفداحة السمعة الاجتماعية التي ستلحق بها وبعائلتها، ولا بالعقاب الذي قد يتربص بها.
في "مديح لنساء العائلة" نحن إزاء حداثة مشوهة، تتجاور فيها أنماط التفكير التقليدية مع أنماط التفكير الحديثة دون أن تحدث الأخيرة قطعًا واضحًا على غرار الحداثة الأوروبية. ففي الوقت الذي لا يمانع فيه فليحان المحدث النعمة؛ عبر امتهانه لتجارة تهريب مادة حشيش الكيف، وصاحب الفكر التقليدي سياسيًا لمناصرته الحكم الملكي الأردني دومًا، في ارتداء زوجته للملابس التي تسمح بكشف جزء من جسدها، ومشاركتها له حفلات السمر، إلا أن ذلك لا يندرج في إقراره بحق المرأة بالتمتع بهذا الحق كنوع من الندية، بل أن الأمر لا يتعدى مظهر الديكور الاجتماعي الذي يجعل من المرأة بمنزلة الزينة. فالمرأة الزينة بفستانها القصير، تبدو كما لو أنها قد تمكنت من تحرير نفسها من تلك النظرة الآثمة التي تربط بين الجسد العورة والرذيلة.
الحداثة في "مديح لنساء العائلة" ليست مشروعًا نسويًا، بل مهمة ذكوريّة بامتياز، تنطلق من تلك الحقيقة البسيطة أنه لا يمكن لإنسان أن يكون حرًا مادام يصر على سلب حرية إنسان آخر. فإذا ما أراد الرجال أن يكونوا أحرارًا فما عليهم سوى أن يساهموا بتحرير أنفسهم من تسلطهم الذكوري على النساء. ولكي يستطيع محمد الأصغر أن يكون جزءًا من هذا الفعل التحرري، كان عليه أن يتقدم باستقالته من وظيفته ككاتب عقود زواج في المحكمة الشرعية، كي لا يكون شاهدًا على الظلم الذي تتعرض له النساء استنادًا إلى قانون الأحوال الشخصية.
لا يكفي لزوجة محمد الأصغر أن تركن إلى حب زوجها لها، وإنما إلى حقها في منع زواجه من امرأة أخرى بموجب القانون. في مساهمته لإنجاز هذا الفعل التحرري يتجه محمد إلى المسرح، حيث الناس وجهًا لوجه مع أنفسهم، وعلى المسرح يتم تمزيق الأقنعة والإعلان عن المخبوء؛ نزعاتنا الفردية، وحبنا للتسلط، وتمزقنا الداخلي بين النزوع إلى الحرية والاستسلام لأقدارنا. المسرح وفقًا لوعي محمد الأصغر ليس عملية تطهر من أخطائنا وشرورنا فحسب، بل عملية تجاوز لكل ذلك. يتعلم محمد من المسرح أن كل تغير مرغوب يبدأ من ثنائية الإرادة - الفعل، وذلك في مسرح الحياة الكبير ودهاليزها، وكل تغير جدي أي حداثي يبدأ من تغيير علاقتنا بالجسد، من جسد المرأة بالذات، من الكف بالنظر إليه كونه وعاء للذة، بل بالنظر إليه كوعاء لتجلي الروح التي تتوق للانعتاق من كل قيد. يقصد محمد البحر كي يمنح زوجته فرصة اكتشاف جسدها كموطن للحياة والبهجة والسرور، عله يشكل مدخلًا لتخلصها من مشاعر الإثم والنقص والرذيلة التي علقت به طوال القرون الماضية.

مصلح مصلح - كاتب من فلسطين/ سوريا
صوت Altra
25 / 4 / 2016