الخميس، 31 مارس 2016

تحولات



قصة: محمود شقير

إنها أم العريس، والصبايا كلهن يرمقنها ضارعات، لعلها تختار إحداهن عروساً لابنها التالي أو الذي يليه.
       إنها أم العريس، تختال بين النساء، توزع الحلوى، وتطلق الزغاريد نحو السماء، والعيون لا تفارقها، فهي الآن نجمة هذا المكان.
       إنها العروس، تجلس بعد إحضارها من بيت أبيها في حياء وخفر قرب عريسها في ثياب الزفاف، والصبايا كلهن يرمقنها في حسد، فهي الآن درة هذا الزمان.

       إنه البيت بعد انقضاء العرس بأيام، حيث الأم تؤرقها ضحكات العروس، تنطلق من مخدعها عبر نوافذ الليل، والأم يغزوها ندم طارئ لأنها اختارت لابنها عروساً لها ضحكة مثل حمحمة فرس، لها ضحكة لم تسمع بمثلها منذ ودعت أيام الشباب.

الاثنين، 28 مارس 2016

حوار مع الكاتب محمود شقير المرشح فى القائمة القصيرة





25 / مارس/آذار / 2016


أين كنت عند الاعلان عن القائمة القصيرة للجائزة العالمية للرواية العربية؟ وماذا كان رد فعلك؟

كنت في البيت أدقق نصًّا كتبته من قبل. وكنت أنتظر الإعلان عن القائمة القصيرة، وحين قرأت الخبر على مواقع التواصل الاجتماعي، فرحت. كانت فرحتي أكبر ممّا حدث حين تم الإعلان عن القائمة الطويلة. بعد ذلك، هاتفني عدد من الأصدقاء وباركوا لي بوصول "مديح لنساء العائلة" إلى القائمة القصيرة، ثم انهالت التبريكات والتمنيات على الفيسبوك. وكان هذا مدعاة لمزيد من الفرح.

ماذا يعنى لك ترشيح روايتك فى القائمة القصيرة للجائزة؟

هذا يعني أن أواصل الكتابة بحماسة أشد، بحيث تكون روايتي القادمة، التي أضع خطوطها الرئيسة وبعض ملامح شخصياتها منذ أشهر، في مستوى فني أكثر تميزًا وجدارة.

هل لديك طقوس للكتابة؟

قبل الكتابة على الحاسوب، كنت أكتب بقلم الحبر على ورق مسطّر، في فترة الصباح حينًا وفي الليل في أغلب الأحيان. وكنت لدى كتابة المسلسلات للتلفاز أكتب بقلم الرصاص لكي أمحو ما لا يعجبني من كلام، وكيلا أضطر إلى كتابة مسودات وتبييض ما كتبته بعد ذلك، ما يعني صرف مزيد من الوقت.

حينما أتقنت الكتابة على الحاسوب، وكان ذلك في العام 1998 وقع تطور ملموس في عدد الكتب التي أصدرتها للكبار وللصغار. فقد مكّنني الحاسوب من توفير وقت كثير، وحفزني على الكتابة من دون انقطاع. كنت وما زلت أكتب في الصباح، حيث أبدأ الكتابة في التاسعة أو في العاشرة صباحًا، وفي أحيان كثيرة أواصل الكتابة في الليل.

قبل كتابة صفحات جديدة، أقوم بمراجعة ما كتبته في اليوم السابق، للتعديل بالحذف أو بالإضافة، ولاستدراج الكتابة وللدخول إلى عالمها من دون استعصاء.

أنا متفرّغ للكتابة منذ أن غادرت الوظيفة قبل إحدى عشرة سنة. أكتب كل يوم تقريبًا. هذا الطقس المتمثل في تحويل الكتابة إلى عادة يومية، يكسبني قدرة على ممارسة الكتابة في أيّ وقت.

لماذا تكتب؟ ولمن؟

أكتب لكي أهبَ معنى لحياتي. من دون الكتابة لا أستطيع أن أواصل الحياة. وقد قلت ذات مرة في إحدى الندوات: الكتابة هي الرئة التي أتنفّس من خلالها. وأكتب لنفسي في الأساس، بحثًا عن التوازن. فأنا إنسان قلق يستفزّني أيّ خلل في الواقع المحيط بي، ويزعجني أيّ تطاول على القيم الإنسانية التي أعتبر احترامها والحفاظ عليها ضروريًّا لكي تستقيم الحياة، حياتي وحيوات غيري من الناس. أحاول عبر الكتابة أن أسلّط سهام النقد على ما في الواقع من خلل لفضحه وتعريته، وللدفاع عن القيم النبيلة وعن كرامتي وكرامة غيري من أبناء وطني، ومن بني البشر الطامحين إلى الحرية والعدل والطمأنينة والسلام.

أكتب لعلّ كتابتي تسهم في أن تكون الحياة أجمل وأرقى وأبهى.

من هم الكتاب الذين أثروا فيك كروائى؟

جئت إلى الرواية بعد أن أصدرت عشر مجموعات قصصية. هذا يعني أنني أمضيت وقتًا غير قصير في رحاب القصة. وقد تأثرت منذ البداية بأدباء كتبوا القصة والرواية في وقت واحد. أشير هنا إلى نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وإلى إرنست هيمنغواي وجون شتاينبك، حتى إنني ترجمت قصصًا لهذين الكاتبين الأخيرين.

وفي ما بعد انصرف اهتمامي إلى ما وقع تحت يدي من روايات يابانية مترجمة، وبخاصة لياسوناري كواباتا، كوبو آبي، وهاروكي موراكامي، وإلى ما وصلنا من روايات أمريكية لاتينية مترجمة، وبخاصة لغارسيا ماركيز، ماريو فارغاس يوسا، وإيزابيل ألليندي.

 من حصيلة هذه القراءات، وعبر بحثي الدؤوب عن صوتي الخاص، تشكلت ملامح أسلوبي في الكتابة التي تمثلت في: رصد الحركة الداخلية للواقع الذي أعيش في ظله ومحاولة التأثير في اتجاه حركته بما يسهم في نصرة الفقراء والمهمّشين والمظلومين، الكتابة بالأسلوب السهل الممتنع والابتعاد عن الزخرفة اللغوية والبلاغة  الزائدة، الميل إلى خاصيّة الحذف والاقتصاد في السرد قدر الإمكان، الانتباه إلى ضرورة توفير متعة القراءة للمتلقي عبر السخرية وخلق شخصيات فنية لديها سمات خاصة قادرة على جذب الانتباه، استنطاق البيئة المحلية التي أعايشها، واستثمار ما في تراثها من سحر وميثولوجيا وغرائبية وحكايات، وتوظيف ذلك كله في نصوصي الروائية.

فى رواية "مديح لنساء العائلة" لماذا اخترت توظيف وسائل متنوعة للسرد مثل الرسائل والاحلام بالاضافة الى تعدّد الرواة؟

كما هو واضح، تنعقد البطولة في هذه الرواية، للعائلة الممتدة، عائلة العبد اللات المتحدرة من عشيرة بالاسم نفسه، عاشت في البرّيّة على رعي الأغنام، ثم ارتحلت إلى أرض لها واقعة على مشارف القدس. ورغم أن الرواية تسلط الضوء على بعض الشخوص، بحيث كانوا هم الأبرز أثناء سرد المسيرة الطويلة للعائلة، فقد ظلت العائلة نفسها، هي الواقعة أساسًا في بؤرة السرد، بحيث تتأثر سلبًا وإيجابًا بسلوك أبنائها وبناتها، وبما استجدّ عليها من أحوال وظروف.

لذلك، لم تبق هذه العائلة على حالها بسبب فعل الزمن فيها، وبسبب التطورات التي وقعت في المجتمع وتركت أثرها عليها وعلى الأبناء والبنات. من هنا، وللإحاطة بهذه التطورات والتقلبات التي خضع لها شخوص الرواية، كان لا بد من التنويع في أساليب السرد انطلاقًا من اختلاف وعي الشخصيات واختلاف الأمكنة، بما يسهم في رصد جوانب جديدة في التحربة المعاصرة للشعب الفلسطيني، تمثلت في وضع شريحة اجتماعية من هذا الشعب تحت الضوء، من خلال اصطدامها مع الغزوة الصهيونية والانتداب البريطاني، ومن خلال وضع قيمها ومعتقداتها وثقافتها الشعبية على المحك في فترة زمنية عاصفة.

ولقد كان تعدّد الأصوات في الرواية منسجمًا مع هذا التوجه لرصد تيار عريض من الحياة والواقع، وتعبيرًا عن النزعة الفردية الي نتجت عن شتات العائلة، وعن متطلبات التطور الاجتماعي التي قلّصت فرص الانصياع لرغبات شيخ  العائلة ومواقفه كما كانت الحال في السابق، حين كانت العائلة تعيش حياة بسيطة في البرية، بعيدًا من تأثيرات العصر والزمن الجديد. 

الرواية لا تقتصر على وصف أحوال المرأة الفلسطينية إنما تتطرق إلى وصف أحوال الرجال أيضاً. لماذا إذن اخترت هذا العنوان؟

صحيح أن ثمة وصفًا لأحوال الرجال إلى جانب وصف أحوال المرأة الفلسطينية، إلا أن تخصيص العنوان للنساء إنما يعكس تحيّز محمد الأصغر، وهو الراوي الرئيس في الرواية لهن، ورغبته في الدفاع عنهن ومناصرتهن في ظل مجتمع ذكوري لا ينصفهن ولا يتورّع عن إلحاق الأذى بهن، ومصادرة حقّهن في التعبير عن أنفسهن. ثم إن العنوان مشتق من جملة لمحمد الأصغر وردت في متن الرواية مفادها أن نساء العائلة جديرات بالمدح. وهو، أي العنوان، نابع من قناعة وردت على لسان محمد الأصغر تجعل تحرير الأرض غير ممكن في مجتمع يظلم المرأة، وينكر عليها حقها في الكرامة والمساواة مع الرجل سواء بسواء.

وإن شئت مزيدًا من الإيضاح، فهو يعكس تواطؤًا بين المؤلف والراوي الرئيس على الإعلاء من شأن النساء بتخصيص عنوان الرواية لهن، تعبيرًا عن احترامهن وتقديرهن وعن التعاطف معهن.
_____________
*موقع الجائزة العالمية للرواية العربية. 

الأحد، 27 مارس 2016

أشياء



قصة: محمود شقير


لم يبق من راتبها الضئيل شيء، اشترت كعادتها كل شهر أدوية
للرجل الذي ينام في البيت منذ سنوات. اشترت مريولاً مدرسياً للبنت، وبنطالاً ترتديه البنت تحت المريول. اشترت حلوى ودفاتر للأولاد، وبما 
تبقى لديها من نقود، اشترت لأول مرة منذ سنوات، كحلاً لعينيها 
ومساحيق وعطوراً لها رائحة ما، من بائع أعمى يقعي خلف صندوقه الزجاجي فوق الرصيف.

السبت، 26 مارس 2016

ديمومة



قصة: محمود شقير

مضيفات الرحلة الجوية الأخيرة، اللواتي هبطن إلى المدينة الصاخبة هذا المساء، غير آبهات لزخات المطر والضباب، المضيفات الجميلات ما إن دخلن صالة الليل التي اعتدن على ارتيادها، حتى انخرطن في الرقص دون أن يفكرن ولو للحظة في مصائر المسافرين الذين غادروا الطائرة، وهن يقفن في وداعهم، وعلى ثغورهن ابتسامات رقيقة صقلتها يد المهنة المثابرة.

       المضيفات البهيجات مثل ورود الصباح، لن يعرفن إلى الأبد أن واحداً من مسافري الرحلة الأخيرة، قد قضى نحبه في حادث غامض بعد مغادرته الطائرة بساعتين اثنتين، أي فيما كانت المضيفات منهمكات في الرقص اللذيذ، استعداداً لبضع ساعات من النوم الهادئ، ثم الاستيقاظ صباحاً كالمعتاد، لتقديم القهوة الطازجة مع الابتسامات، لمسافرين جدد يجوبون هذا العالم من أقصاه إلى أقصاه.

الخميس، 24 مارس 2016

ولادة




قصة: محمود شقير


       مع المساء، تهب ريح صرصر، تتراكض الغيوم في السماء، كأنها قطعان يسوقها الراعي بعصا غليظة، ثم تنعقد في شحوب الغسق قبة رمادية مهيبة.
       يسارع الأب إلى مخزن الحطب، يعد ناراً تصلي الوجوه، تجلس العائلة حول الموقد، ينهمر مطر غزير في الخارج، ثم لا يلبث الثلج أن يتساقط.
       تتلمس المرأة بطنها، تحاول أن تكتم أوجاعها إلى الصباح، غير أنها لا تحتمل، يذهب الرجل لإحضار القابلة، ولا يعود بها إلا مع الفجر.
       تسمع المرأة صوت أقدام تغوص في كتل الثلج المتراكم، تشعر بشيء من الارتياح، يخلع الأب فروته، ينفضها فوق الموقد الخامد، تتساقط قطع من الثلج في الموقد، يشعر بغتة أن حياته ليست سوى سلسلة متصلة من الشقاء، ينسرب تحت الغطاء، يحلم بأيام هادئة، غير أن صراخ المرأة يقطع عليه أحلامه.
       تبشره القابلة بالمولود الجديد، يفرك يديه منتشياً ويقول: سيكون اسمه "مطر". تركن الأم إلى الراحة ثم تنخرط في سبات عميق. أما مطر فقد ظل يصيح إلى ما بعد الفجر.


الأربعاء، 23 مارس 2016

أفكار متصلة عن المشهد الأدبيّ الفلسطيني



بقلم: أنطوان شلحت

تتحدّد "المحطة الزمنية" الراهنة للمشهد الثقافي الفلسطيني برسم تحولات سياسية واقتصادية - اجتماعية وتقنية طرأت على هذا المشهد فتركت أثرًا في بنيته الفكرية والثقافية.
وهي تحولات مرتبطة بمتغيرات سياسية واقتصادية - اجتماعية وتقنية خاصة وعامة في الآن عينه.
وثمة تقاطع بين الخاص والعام، ينعكس بدوره على الملامح العريضة للمشهد، بقدر ما يساهم في مآلاته. 
وبثقل موازٍ ثمة تقاطع بين الذاتي وما هو عابر له.

بغية الإشارة إلى أبرز ملامح "المحطة الزمنية" الراهنة للمشهد الثقافي الفلسطيني ومحاولة تعيين فيما إذا كانت نقطة بداية لها، سأستعين بالموضوع المركزي الذي طغى على الروايات الفلسطينية الثلاث التي تم ترشيحها ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية خلال آخر عامين، وهي روايات "حياة معلقة" لعاطف أبو سيف، و"مديح لنساء العائلة" لمحمود شقير، و"مصائر.. كونشرتو الهولوكوست والنكبة" لربعي المدهون.
فهل يوجد ما هو مشترك بين هذه الروايات الثلاث؟ 
وما الذي يمكننا أن نتعلّم منها بشكل عام عن ملامح "المحطة" الراهنة للأدب الفلسطيني بمجمله؟.

صعوبة التحرّر من الماضي

لعلّ أول ما يصادف القارئ أن كتابة المكان تشكّل القاسم المشترك لهذه الروايات. 
ولم يحدث ذلك من طريق المصادفة، وهذا ما أمكننا التأكّد منه حتى وفقًا لشهادات كتابّها. 
فمحمود شقير سبق أن أكد في سياق حوار مع "ملحق الثقافة"/ "العربي الجديد"، أن للمكان تأثيرًا كبيرًا على أعماله الأدبية. 
وأشار أيضًا إلى أنه عاين ذلك وتأكّد منه بالتجربة الملموسة. فحينما كان يعيش في المنفى بعيدًا من مكانه الأوّل، الذي شهد ولادة قصصه الأولى، وجد صعوبةً كبيرة في كتابة قصص تنتمي إلى ذلك المكان وهو بعيد منه، بل إن القصص التي كتبها عن الانتفاضة الفلسطينية الأولى (1987) وهو مقيم في المنفى، اتّسمت إلى حد ما بما يسمى "التذهين" الذي يصوغ الرؤى والمشاعر والأمكنة على نحو مفتقر إلى حرارة التجربة والمعايشة الحية. لذلك، ومن أجل تجاوز هذه المعضلة، لجأ - كما يقول - إلى كتابة القصة القصيرة جدًّا التي لا تحتاج إلى مكان مفصّل، بل تكتفي بجزئية من مكان ما لتشكّل وعاءً لمادة القصة وحاضنة لها. وحين عاد إلى الوطن وتعايش من جديد مع مكانه الأوّل، عاد إلى كتابة قصص تستوحي هذا المكان وتتأطر من خلاله، وتغتني في الوقت نفسه بكل ما يعنيه المكان من هوية وانتماء.
وربعي المدهون كشف في مجرى حوار آخر مع "ملحق الثقافة" نفسه، أنه احتاج في "مصائر" إلى قراءة الكثير عن وضع عكا سنة 1948، وتفاصيل جغرافية هذه المدينة، وكذلك القدس والمدن الأخرى، ومشاهدة فيديوهات، وخرائط للشوارع، وحتى الاستعانة بدراسات حول اللهجات الفلسطينية المتعدّدة في المدن التي تطرق إليها في روايته. ومن ثم قام بتوليف المعلومات ونسجها في سياق السرد بصبر امرأة تطرّز ثوبًا فلاحيًا بخيوط الحرير. وبرأيه هكذا يتحقق للسرد غناه، ويقدم للقارئ معلومات تاريخية وجغرافية وسياسية وعلمية وسياحية وغيرها، بحيث لا تبدو قادمة من خارج السرد، أو زائدة عن حاجته. وأشار أيضًا إلى أن كل مكان يغيب المرء عنه، لا بدّ أن تحدث عودته إليه صدمة، إيجابية أو سلبية. فكل لقاء يبعث على الدهشة. لكن لقاء الفلسطيني بأرضه يشكل صدمة من نوع مختلف: إنه يخوض مواجهة مع ماضيه، ذاكرته، التي يحاول تحريرها من سطوة الأيديولوجيا، ومن مأساة الواقع. كما أنه في كل مرة يرى المُبعد في الوطن وطنًا آخر لم يره، ولا يكف عن رؤيته بتفاصيل أخرى ومشاعر أكثر حميمية، فيدوّن ما يراه في الورق وعلى سطح الذاكرة، كي لا يفقده مرة أخرى.
أمّا عاطف أبو سيف فيؤكد أن الوطن كلمة كبيرة برغم ضيقه بنا كما يقول الشاعر محمود درويش. وبحسب قراءته، الوطن في الوعي الفلسطيني شيء مفاهيمي نوستالجي مرغوب ومشتهى. وهو حين قياسه بقسوة الواقع يبدو متعذرًا. وربما في الرواية - كما في الفن - تكون استعادته ممكنة، وبالتالي تصير الرواية مبشرة بفرص تحقيقه. وهو يشير إلى أن شخصيات روايته في المخيم لها ذكريات عميقة ودافئة في يافا مكان ولادتها ومرتع طفولتها وحضن صباها، وبالتالي فهي لا تعيش الواقع بل تقارنه باللحظات الجميلة التي عاشتها في المدينة العربية الأجمل على شاطئ البحر المتوسط.
إذن في ما يختص بالموضوع، يُمكن الاستنتاج بأن هناك خصيصة مركزية تُميّز هذه الروايات الثلاث المرشحة لجائزة البوكر العربية، كونها حتى وهي تصوّر الواقع الراهن منهمكة بالأساس في ماضيها ذي الوقائع الصادمة، وهذا لا يعني أن من الصعب عليها توجيه نظرها إلى الحاضر، بقدر ما يعني أن لهذا الماضي عملًا أدبيًا لم ينته بعد، أو أنه غير مُنجَز. 
في واقع الأمر كان السؤال المرتبط بالنكبة الفلسطينية الكبرى سنة 1948 أحد أهم الدوافع الرئيسية وراء العودة المستمرة من جانب الأدب الفلسطيني، جيلًا جيلًا ومرحلة مرحلة، إلى الماضي. وبالتالي كان أحد أسباب صعوبة التحرّر منه.
فهذا الماضي، بالنسبة للمبدع الفلسطيني كائنًا من يكون، هو بمثابة مرتكز الرفض والتمرّد على الحاضر في مستوى الصيرورة، من جهة. وهو في الوقت ذاته متكأ الكشف عن مفهوم المستقبل والجديد على صعيد السيرورة والرؤيا (الحلم)، من جهة أخرى.
وهذه العودة، كما تبدّت في الأدب الفلسطيني عمومًا، عادةً ما جاءت حافلة بتصوّر للماضي ومقاربة له يتمظهران في مناحٍ تبدو مختلفة كثيرًا عن تمظهرات الماضي في إبداعات شعوب أخرى. 
والقصد من هذا، أنه إذا كانت مقاربة الماضي في تلك الإبداعات الأخرى تتمظهر في مناحٍ تعبر بكيفية ما عن مماشاةٍ مع الحاضر بصفة إيجابية، فإن المبدع الفلسطيني في لا وعيه، إن لم يكن في وعيه التام، يرفض التعامل أو التماشي مع الحاضر على الرغم من تصوّره للماضي ومقاربته له. فالحاضر، هنا والآن، حاضر غير مرغوب بمقدار ما هو "حاضر حتى إشعار آخر" أو "حاضر بالوكالة" مقطوع عن الماضي، وإن شئنا التحديد فإنه متجّه نحو مستقبل يشكّل ذلك الماضي آصرةً عضوية في سياق استشراف واستشفاف هوية محددة له.
وأشير كثيرًا أنه في حالة الأدب الفلسطيني، وارتباطًا مع العودة إلى الماضي، نصادف عنصرين متصلين مبنًى ومعنًى:
الأول- عنصر بناء الذاكرة الوطنية.
الثاني- عنصر إعادة بناء المكان، ويتم ذلك في أحيان كثيرة عبر ما يسمى تفنين السيرة الذاتية أو محاولة تصعيد السيرة الذاتية إلى مستوى الأثر الأدبي.

الخروج على التنميط

لئن كانت هذه العودة إلى الماضي "مسلكًا أدبيًا" مشتهًى لا تعوزه المبرّرات، فإنها في الوقت ذاته وقفت وراء ما يمكن اعتباره تنميطًا للأدب الفلسطيني.
لكن قبل تفكيك هذه المقولة، تستدعي عصارة التجربة المنوي إخضاعها للتأمل والنقد بهذا الشأن، من باب الوعي المسبق الاختيار، أن نتمحور حول واحد من التطلعات البارزة التي تمّ رهن الأدب الفلسطيني ولا سيما في فلسطين التاريخية بها، ويتمثل هذا التطلع في جعل هذا الأدب وعاء أو وسيلة مهمة جدًا، كي لا أقول الوحيدة، في حماية الهوية القومية والوطنية.
إن حماية هذه الهوية من عوامل التشويه أو الاندثار أو المسخ، من ناحية الشعب الفلسطيني عمومًا، كانت وما تزال مهمة غاية في الأهمية. وهي كذلك خصوصًا من ناحية الفلسطينيين في الداخل.
وهناك العديد من المعاني والدلالات للهوية الوطنية من منظور الفلسطينيين. 
وإذا ما حصرنا هذه الدلالات من منظور الفلسطينيين في الداخل - بحكم معايشتي لهذه التجربة - يتوجب التشديد على ما يلي:
أولاً: الهوية الوطنية، وفقًا لتصوّر الفلسطينيين في الداخل، هي توكيد لمجتمع أنكر أعداؤه وما زالوا ينكرون حتى مجرّد وجوده.
ثانياً: الهوية الوطنية، بالنسبة للفلسطينيين من الداخل، هي المنقذ من الاغتراب في بلاد هم أصحابها تاريخيًا وقامت عليها، بصورة عنيفة تزداد عنفًا، دولة (كيان) جرّدتهم من الوطن وتقصيهم من المواطنة وترفضهم، مع ما يمكن أن يترتب على واقع كهذا من افتراق ظاهر عن الذات.
ثالثاً: الهوية الوطنية هي عنوان كفاح للعودة إلى حياة طبيعية، انتهت بسبب النكبة سنة 1948.
وبالعودة إلى مسألة التنميط، لا يسعني سوى أن أوافق على الاجتهاد الذي يقول إن اتفاق أوسلو (1993) كان "محطة زمنية" أخرى في المشهد الأدبي الفلسطيني. فبعد هذا الاتفاق وما عناه من تحولات سياسية واجتماعية، تواترت محاولات خروج الفلسطيني من التنميط إلى أبعاد أكثر تفصيلًا وعمقًا في الحياة اليومية والاجتماعية، وفي العلاقة مع الناس والآخر، بينما قبل أوسلو كان تنميط الأدب الفلسطيني واضحًا، ويكاد موضوعه ينحصر في الصدام المباشر مع الاحتلال. 
ويعتقد بعض من طرحوا هذا الاجتهاد أن الأدب الفلسطيني بعد أوسلو شهد ازدهارًا واضحًا جدًا، فقد ظهرت أسماء جديدة كرّست نفسها في الساحة الأدبية الفلسطينية. وأصبحت الحياة في ظلّ الظروف المتغيرة الجديدة والغرائبية إلى حدّ ما، هي الموضوع الرئيسي في الأدب الفلسطيني. بالإضافة إلى ذلك، صار الانفتاح على العالم الخارجي أكبر خصوصًا من خلال عودة الكثير من المثقفين الفلسطينيين من المنافي المتعدّدة، ومساهماتهم في المشهد الثقافي الجديد. ونتيجة لاجتماع هذه العوامل، شهد النتاج الإبداعي قفزة نوعية في الشكل والمضمون والمجالات والموضوعات، وهو ما يظهر جليًا في حال المقارنة بالنتاج الإبداعي قبل أوسلو. 
ويبدو لي أنه لا طائل من طرح السؤال فيما إذا كانت هذه الحالة بمنزلة إيذان ببداية مرحلة المماشاة مع الحاضر، نظرًا إلى أنها تنكفئ على نفسها، ولو بدليل عودة الصنف السالف من الكتابة عن المكان. 

هاجسان
حتى وإن كانت العودة المجلجلة إلى الكتابة عن المكان، كما يتجلّى الأمر في الروايات الثلاث المرشحة لجائزة البوكر، تعني استحالة التحرر من "الموضوع الفلسطيني المباشر"، فليس فيها ما يصرف النظر عن هاجسين يؤرقان المشهد الثقافي الفلسطيني الآن: الأول، الهاجس الفنيّ والجماليّ. فليس الموضوع - مهما يكن - هو ما يزكّي الأدب. الثاني، هاجس الكتابة ضمن مُناخ رائج، يفتقد إلى ما كنّا نسميه "مرجعية الإجازة". وبصرف النظر عما يمكن أن تثيره التسمية من تحفظات مبرّرة، فليست التسمية هي ما يهمنا، إنما الحالة النقيضة التي تُفتقد فيها مرجعيات ويختلط القمح بالزؤان من جراء اعتماد معايير ليست أدبية صرفة، ليس أبسطها معيار العلاقات العامة، وشيوع سبل الانتشار، وتكوين عوالم افتراضية بديلة من العوالم الحقيقية بما في ذلك عالم الإبداع. ويقف وراء الهاجسين ثالث أكبر منهما، هو هاجس "نبض الجماهير"، الذي يحيل إلى موضوع تراجع ثقافة الكتابة وصعود قوة "ثقافات" منافسة مثل وسائل الإعلام. وباعتقاد كثيرين، فإن تراجع ثقافة الكتابة يؤدي في العمق إلى تقويض مكانة الكتابة المتخيّلة. لكن سأسارع إلى استنتاج بأن استمرار رعيل كتاب الرواية الذي يمثله شقير والمدهون في الكتابة والاستقرار في عمق المشهد، ينفي أي زعزعة للثقة بالنفس لدى المبدعين الفلسطينيين بالنسبة إلى ضرورة الأدب وضرورتهم معه، مثلما يحدث في أنحاء أخرى من العالم المعاصر.
___
*العربي الجديد 22 مارس 2016

الثلاثاء، 22 مارس 2016

جنازة



قصة: محمود شقير

الكهل النحيف ذو العنق الطويلة المضحكة، مات وهو يعتقد أنه عاش حياة صاخبة، لأنه منذ اشتغل ضارباً على الدف في الملهى الليلي، هزت أردافها على الدف تضربه يداه، سبع وأربعون راقصة، لكل واحدة منهن قصة لا يعلم أسرارها أحد سواه.
       الكهل النحيف أيقن وهو يموت وحيداً في كوخه، أن راقصات الملهى لن يتخلفن عن حضور جنازته، وقد يلطمن خدودهن _ المليئة بالأصباغ_ وجداً عليه.

       الكهل النحيف مات والراقصات مستغرقات في قيلولة ما بعد الظهر، تأهباً لليلة طويلة من الرقص المحموم، فلم يشارك في جنازته سوى حارس المقبرة، واثنين من عابري السبيل، وأربعة من أهل البر، وكلب الحي البائس ذي الذنب المقطوع.

الاثنين، 21 مارس 2016

عاصفة





قصة: محمود شقير


       كل الذي يدريه أنه في لحظة غامضة مال على خدها، فاندلعت في الجو عاصفة. المساء الشاحب يطبق بأهدابه على شجر الطريق، والكون يتلفع بأغنية من هواء بارد وغيوم، وهو لا يدري لماذا حينما مال على خدها ليقطف وردة، انفجرت في الجو عاصفة، وأجفلت امرأة القلب، كأنها غزالة تخاف غموض الكلام وثرثرة المدن.


السبت، 19 مارس 2016

حرمان




       قصة: محمود شقير 
      الطفل
الذي صحا من نومه في الصباح المغبش، لم يشأ أن يوقظ أمه من نومها الثقيل. ها هو ذا يجلس قربها في السرير، يتأمل وجهها الساكن مثل صفحة الماء.
       الطفل الذي صحا من نومه مبكراً جاع، مال نحو صدر الأم كي يخرج الثدي من تحت الرداء، غير أن يديه الطفلتين خابتا.

       الطفل الرضيع ارتمى في حضن البكاء. تجمهر في البيت أناس جاءوا من كل الأنحاء. بكوا في البيت وقتاً، ثم حملوا أم الطفل إلى حيث لا يدري حتى الآن.

الجمعة، 18 مارس 2016

عهد




قصة: محمود شقير

ثمة لوحة على الجدار: زجاجة وبضع حبات من التفاح، وعلى الشريط أغنية: أحن إلى خبز أمي. وفي الخارج مطر ينقر زجاج النوافذ.
       أمامه كأس من النبيذ، تنمو في صدره بلاد بعيدة: سور عتيق يغسله المطر، نوافذ خشبية مرنخة، قباب ومآذن وصلبان، تمر مصفحة في عرض الشارع، يتراشق من تحت عجلاتها رذاذ كثيف، تدوي أجراس الكنائس حزينة: إنه يوم الأحد، ينسرب عبر باب زجاجي، يحتسي نبيذ اللطرون، ويحلم بسماء صافية وشوارع لا تعكر صفوها المصفحات.

       توقف المطر، غابت الصورة، عاد يحدق في اللوحة الصامتة، ذابت الأغنية. كم هو بعيد عن تلك البلاد! عبّ كأس النبيذ دفعة واحدة، خرج إلى الشارع يرقب اندياح الماء كالذكريات، ثم مال على صفصافة في القلب، وكتب على جذعها عهداً.

الخميس، 17 مارس 2016

وحدة



قصة: محمود شقير

بعد منتصف الليل بقليل، أيقظه لسع الهواء البارد، اتجه نحو النافذة وهو يؤنب نفسه، لأنه لم يفطن إلى إغلاقها قبل النوم.
       عاد إلى سريره ثم توقف حينما انتبه إلى أن القطة ليست على السرير، ولا في ركن الغرفة أو تحت المائدة الهرمة.
       اتجه نحو النافذة من جديد وانتظر، وحينما أدركه اليأس انزوى في سريره وهو يتمتم: كم مرة حذرتها من الخروج ليلاً! قال ذلك وهو يسعل، قاله وكأنه يقصد امرأة.


الأربعاء، 16 مارس 2016

افتقاد



قصة: محمود شقير

هي تدري، منذ أن أهداها تلك الحكاية التي تتحدث عن عاشق غاب، أنها ستفتقده ذات مساء، ستبحث عنه في البيت، في الطرقات، في كل الأمكنة التي اعتادا على ارتيادها، دون أن تعثر على جواب.
       هو يدري، أنه سيفتقدها ذات صباح، ولن يستطيع البحث عنها، لأنه سيكون محروماً من ارتياد الأمكنة أو قطع المسافات.

       مرة، جاءها خبر غامض، خرجت تركض مثل مهرة حتى وصلت بيته البعيد، لم تجرؤ على الدخول، فقد كان البيت مسكوناً بالصمت، وعلى جدرانه تتكاثف الظلمات.